..قبل أسبوع من اغتياله وقف وسط أبناء بلده يخطب فيهم، لعله كان يستشعر أبعاد المؤامرة عليه وعلى مشروعه فى نهاية خطابه الحماسى قال للمحتشدين أمامه كأنها وصيته الأخيرة ..يمكنهم قتل الثوار لكن لايمكن قتل أفكارهم.
كانت تلك آخر كلمات توماس سنكارا الضابط الشاب الذى تولى حكم بوركينا فاسو لأربع سنوات من عام 1983 الى 1987 ، فى هذا البلد الإفريقى الغنى بموارده الفقير أهله نتيجة للاستغلال الاستعمارى، هذا الاستعمار الذى رحل شكلا عن أغلب أراضى القارة السمراء فى الستينيات ولكنه بقى فعلا يمارس الاستغلال لموارد إفريقيا عن طريق شركاته وشبكته الأخطبوطية من أباطرة رأس المال العالمى فى العواصم الغربية الذين يعتبرون بصفاقة إفريقيا وشعوبها إرثًا لهم لا يمكن المساس به.
لم يكن سنكارا شابًا عاديًا كان أقرب إلى فليسوف وفنان يحمل جيتاره ويتغنى بجمال وحب إفريقيا وبلده، منذ وصوله إلى الحكم رفض أن يكون رئيسًا تقليديًا يراقب من شرفات قصره حال شعبه، انطلق سنكارا يحارب الثالوث الذى يخدم استغلال الاستعمار ..الفقر والجهل والمرض كان دائمًا مايرى فى تجربة جمال عبد الناصر فى التصدى للاستعمار والتنمية ومساندة حركات التحرر بإفريقيا ملهمة له وفى مبادئ الثائر تشى جيفارا بوصلة يسير على إشاراتها.
قد ما مايرجوه سنكارا لبلده مجرد أحلام فى رأسه لا تلامس أرض الواقع لكن خلال الأربع سنوات من حكمه تحولت فولتا العليا التى غير اسمها إلى بوركينا فاسو أو أرض الشرفاء باللغة الأصلية للبلاد إلى بلد ناهض استطاع الحد من وفيات الأطفال بعد أن كانت هى الأولى فى العالم فى عدد الوفيات، حارب التصحر الذى يأكل بلاده بزراعة 10 ملايين شجرة، نشر برامج التعليم للقضاء على الأمية، أدار خطة من أجل التصنيع لاستغلال موارد بلاده، خاض معركته الكبرى من أجل تحرير المرأة ودمجها فى العمل العام، حول الاسم الجديد الذى اختاره لبلاده إلى واقع وبشهادة البنك الدولى وبعد ثلاث سنوات من حكمه أى فى 1986 أصدر البنك تقريرًا بأن بوركينا فاسو أصبحت خالية من الفساد.
حقق سنكارا كل هذا لأنه لم يرد أن يكون حاكمًا بل مصلحا، رفض أن يجلس فى مكتب مكيف لأن شعبه لايتمتع بتلك الرفاهية ولم يعرف الطريق إلى السيارات الفارهة بل كان يتجول بسيارة بسيطة وأحيانًا دراجة هوائية وكانت متعته الوحيدة هى العزف على الجيتار، بعد ما حققه سنكارا لشعبه فى سنوات عددها أقل من أصابع اليد الواحدة تحول إلى قديس فى أرض الشرفاء وأسطورة تسير على أرض الواقع تلبى أحلام البسطاء والفقراء.
تجربة سنكارا الفريدة فى تحويل بلد غارق فى الفقر والتحديات إلى بلد ناهض يخرج من دوائر العوز إلى التنمية الحقيقية بالتأكيد كانت فى صالح الشعب الذى يبحث عن حياة كريمة لكن هذه النجاحات وعمليات التنمية مثلت أرقًا وصداعًا مزمنًا فى رأس المستعمر وكان المستعمر هنا فرنسا الذى يدير كل شيء من خلف شركاته وشبكته الأخطبوطية لم ينظر المستعمر إلى سنكارا على أنه مصلح أو قائد يسعى إلى تحقيق رفاهية شعبه بل نظر إليه كفيروس خطير وشرس قد تصيب عدواه أغلب بلاد القارة السمراء خاصة الدول المجاورة لبوركينا فاسو، النيجر، مالى، بنين وغيرها التى تتابع شعوبها بشغف تجربة سنكارا فى بلاده.
بدأت التحذيرات والإنذارات تصل إلى سنكارا بأن يتوقف عما يفعله لأن ذلك يثير تطلعات العديد من الشعوب ومنها شعبه وهو لن يستطيع تنفيذ ما يعد به مما سيؤدى إلى اضطرابات، لكن الحقيقة كانت عكس هذه الإنذارات وهى أن سنكارا ينفذ ما وعد به وهو ما أقلق باريس وكل الرأسمالية الاستعمارية التى تريد نهب مقدرات شعوب القارة.
تحولت التحذيرات والإنذارات إلى عمل رسمى فعقد فى سبتمبر 1986 مؤتمر دول جوار بوركينا فاسو برعاية فرنسية فى عاصمة كوت ديفوار حيث أصبح سنكارا وتجربته فى مرمى القناص الفرنسى لأنه لم يتوقف عن أفعاله المزعجة للمستعمر وشركاته وشبكته .كان رسول التحذيرات الفرنسية هو كريستوف ميتران نجل الرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران الذى عمل مستشارًا لوالده فى الشئون الافريقية حتى العام 1992، الغريب أو المضحك أن الرئيس الفرنسى ميتران كان منتميًا للحزب الاشتراكى الذى من ضمن مبادئه تحقيق العدالة الاجتماعية ولكن عندما تصل هذه العدالة إلى إحدى المستعمرات السابقة للامبراطورية الفرنسية الغابرة وتهدد مصالح باريس هنا ينزع الاشتراكيون الفرنسيون قناع الحرية والمساوة ويعودون إلى طبيعتهم وحقيقتهم مجرد مستعمرين ناهبين لخيرات الشعوب.
انتهت مرحلة التحذيرات والإنذارات وأعقبها انطلاق الرصاصات ليتم اغتيال توماس سنكارا فى أكتوبر 1987 أثناء ذهابه إلى احد الاجتماعات وكان مدبر الاغتيال بليز كومبارى وزير العدل بالتعاون مع المخابرات الفرنسية وتأييد من الدول التى عقدت مؤتمر الجوار وتولى كومبارى الرئاسة من بعده بتأييد فرنسى أمريكى واختطفت جثة سنكارا ليتم دفنها فى قبر مجهول حتى لا يذهب الفقراء والبسطاء لزيارة قبره ويتحول إلى رمز.
ظن المستعمر الفرنسى أنه حقق نصرًا نهائيًا على سنكارا ومشاريعه وأعاد بوركينا فاسو إلى حظيرته ليمارس لعبة النهب والسلب من جديد لكن فى نشوة الانتصار نسى الفرنسى الكلمات الأخيرة لسنكارا أنهم يمكن أن يقتلوا الثوار لكن أفكارهم لا تقتل.
تمر أكثر من ثلاثة عقود على رحيل سنكارا ويتغير العالم لم تعد فرنسا هى فرنسا الثمانينات والوضع الدولى أصبح غير لحظة اغتيال سنكارا فروسيا التى خرجت من الحقبة السوفيتية منهارة وممزقة عادت بقوة لتحدى الغرب بأكمله وتمد نفوذها فى كل معاقله وعلى رأسها القارة السمراء أما الصين التى كانت فى ثمانينات القرن الماضى مازالت تسير بخطوات متعثرة على طريق النمو الاقتصادى أصبحت الآن القوة الاقتصادية الأعظم وتقدم للعالم وخاصة إفريقيا مبادرتها الحزام والطريق بديلا للرأسمالية والعولمة الغربية ، بالاتجاه إلى الولايات المتحدة فواشنطن فى صراع داخلى مستعر يصل إلى درجة الفوضى بين القوى المسيطرة على القرار السياسى وخارجيًا فهى فى حالة من الارتباك وعدم مواجهة الحقيقة بأن زمن الهيمنة على المجتمع الدولى وعالم القطب الواحد قد ولى وأن هناك عالمًا جديدًا يتشكل من قوى متعددة .
بقى الثابت الوحيد الذى لم يتغير منذ رحيل سنكارا وهو أفكاره وتجربته المجهضة التى لم ينسها شعبه وشعوب الجوار وقبل فترة قصيرة أصبحت تستيقظ باريس وواشنطن كل صباح على أخبار ومشاهد مزعجة لهما، فى هذه المنطقة من غرب إفريقيا ومن مالى إلى غينيا كوناكرى وبوركينا فاسو بلد سنكارا وأخيرًا النيجر.
دارت الأخبار المزعجة حول التحركات العسكرية التى تقوم بها جيوش هذه البلاد ويكون أول قراراتها إنهاء العلاقة مع المستعمر القديم وظهور وحضور افكار سنكارا فى كل مايعلن من قرارات ، أما المشاهد المزعجة فهى الأعلام الروسية يحملها المتظاهرون فى عواصم هذه البلدان ورغم أن التنين الصينى لم يظهر بأعلامه إلا أن الغرب وعلى رأسه واشنطن يعلم جيدا أن التنين جاهز بمبادرته ومشاريعه ليتدخل وراء العلم الروسى.
عند المحطة الأخيرة فى تحولات الغرب الإفريقى أو ماحدث فى النيجر كانت الصدمة شديدة على باريس فالكهرباء التى يتمتع بها المواطن الفرنسى تضخها المحطات النووية الفرنسية ويأتى أغلب اليورانيوم الذى يشغلها من أراضى النيجر، أما واشنطن فهى تصدر تصريحات حذرة ضد ما حدث على غير المعتاد فهل تمارس واشنطن لعبتها القديمة للتخلص من الصديق الفرنسى المزعج ذو الارث الاستعمارى كما فعلت مع بريطانيا فى الشرق الأوسط سابقًا وتنفرد هى بالساحة؟ تعلم واشنطن جيدا أن روسيا المرهقة من الحرب الأوكرانية والعقوبات لا تستطيع تقديم مساعدات اقتصادية على قدر الحاجة أما خصمها الرئيسى التنين الصينى فسياسة الخطوة خطوة التى يتبعها تجعل وصوله إلى هذا البلد المحورى النيجر بطيئة نوعًا ما .
تبقى الحجة الرئيسية التى يستخدمها الغرب وعلى رأسه واشنطن فى هذه المنطقة من العالم للتواجد بجيوشه وهى محاربة الإرهاب ممثلا فى القاعدة وداعش والغريب أن هؤلاء الدواعش يظهرون فجأة وبعدها يأتى الغرب ليحاربهم كأنهم على موعد.
بين الحرب على الإرهاب ولعبة الدفاع عن الديمقراطية تمد واشنطن وحلفاؤها الغربيون ــ الذين قد تتخلص منهم فى أى لحظة لأجل مصالحهاــ أذرعهم فى هذا الجزء من إفريقيا وتتقدم موسكو ومن ورائها بكين مطاردة النفوذ الغربى فى هذه المنطقة الحيوية من إفريقيا والعالم وسط لعبة المصالح تلك وصراع الامبراطوريات الصاعدة والغابرة على الموارد يبقى الحسم فى كلمة الشعوب وأفكار توماس سنكارا التى لم تقتل ويعتنقها الفقراء والبسطاء.
بعد 36 عاما من اغتياله على يد المستعمر عاد سنكارا عازف الجيتار ليخوض معركته الأخيرة من أجل إنهاء لعبة المصالح وتخليص مقدرات شعبه والشعوب الأخرى فى هذا الجزء من القارة السمراء من الاستعمار القديم والحديث.