محمود الوردانى يكتب :عالم صدام حسين ( 2 – 2 )

محمود الوردانى
محمود الوردانى

[email protected]

كنت قد أشرتُ فى الأسبوع الماضى إلى عودتى لقراءة عمل روائى بالغ الأهمية، بعد مرور مايزيد على عقدين من السنين على قراء تى الأولى. العمل هوعالم صدام حسين لكاتب ظل غامضا حتى الآن. توقفت فى الأسبوع الماضى عند حقيقة الكاتب الذى وضع اسما مستعارا على روايته- مهدى حيدر- ومازال حريصا على إخفاء نفسه دون أى داعٍ.


وأريد هنا أن أتوقف عند مفصل أساسى فى بناء الرواية هو الذى منحها كل هذا التماسك، وسمح لها فى الوقت نفسه بالحركة الواسعة بل المترامية، ليس فى الزمان وحده، بل والمكان أيضا، وليس فى بغداد وحدها إنما فى سائر مدن وقرى العراق وعدد آخر من المدن والعواصم العربية والأوروبية.


هذا المفصل هو اكتشاف الكاتب أن أهم ما يميّز صدام حسين أنه رجل أمن، وتتمحور الرواية كلها حول العالم الداخلى المعقد والمتناقض لرجل الأمن. ومن بين ما وُفّق فيه الكاتب بشدة السعى وراء الشخصية الرئيسية - صدام حسين، وهو يبنى جهاز الأمن لحزب البعث حجرا فوق حجر بدأب وتفانٍ.


وإذا كان معروفا أنه- صدام- لم يكن مشتغلا بالسياسة أو بالفكر أو الكتابة أو أى نشاطٍ من هذا النوع، فإن إبداعه الحقيقى اتجه إلى تأمين وأمان وحماية الحزب الذى أخلص له، وليس ضروريا له على الإطلاق الاهتمام بتوجهات وأفكار الحزب. لذلك شارك بنفسه، بيديه، فى تصفية الخصوم أو الأعداء أومن اعتبرهم أعداء، وهؤلاء الأخيرون زملاءه أصلا. 


  لقد فعل أحطّ مايمكن أن يفعله حاكم: جعل الزملاء فى الحزب يتجسسون على بعضهم البعض ويكتبون التقارير الكاذبة ضد بعضهم البعض، ثم خرج بنشاطه واستراتيجيته الأمنية إلى خارج حزب البعث، إلى الوطن بكامله، بكافة قواه السياسية، وأقام  دعائم الدولة على دعائمٍ أمنية فقط. عليّ الاعتراف هنا أن الكاتب- أيا كانت حقيقته- كاتب قادر على الولوج لهذا العالم المتلاطم، قادر على تقديمه بدمٍ باردٍ وبلا جنوح عاطفى، ولم يكن من بين دوافعه للكتابة إدانة صدام حسين شخصيا أو دعوة القراء لكراهيته أو السخرية منه.


  ربما كان من أهم مشاهد الرواية تلك الارتحالات المخيفة فى مشارق الأرض ومغاربها لتتبع الخصوم وتصفيتهم دون أدنى ضجيج. والحقيقة أنه لاضجيج فى الرواية. لاصراخ. لاعواطف. لاسياسة ولا أفكار ولا قضايا كبرى مما تنشغل به الأحزاب السياسية ونظم الحكم، هناك فقط جهاز أمن كلى القدرة وبالغ التماسك وله ذراع طويلة ومخالب مسنونة جيدا.

هناك محاولات هروب لم تتوقف منذ هرب صدام حسين من بغداد إلى القاهرة فراراً من محاكمته لاشتراكه فى محاولة اغتيال، وحتى صعوده على جثث العشرات ممن قام بتصفية أغلبهم برصاص مسدسه أو محاكمات علنية يعقدها على عجل وتنفذ على الفور، أى بمجرد النطق بالحكم، وهو عادة الحكم بالإعدام.


وأخيراً، يظل إخفاء الكاتب لنفسه مثيراً للريبة. فلا خوف من أن يقوم صدام حسين وأجهزته باغتياله، لأن صدام نفسه أعُدم ونظامه وحزبه هُزم وتولت الولايات المتحدة حكم البلاد بعد احتلالها. والرواية ذاتها  نجحت وصدرت منها عدة طبعاتٍ.


كتبها كاتب ليس هاوياً بل روائى مقتدر، وله خبرة ضخمة بالكتابة، والمادة التى صاغ منها روايته تعكس عكوفا وتدقيقا لكاتبٍ محترفٍ.
يظل السؤال: من هو مهدى حيدر؟..