«عزاء» قصة قصيرة للكاتب الدكتور عمرو منير

الدكتور عمرو منير
الدكتور عمرو منير

كنتُ طفلاً صغيراً عندما اصطحبتني أمي إلى تلك المناسبة العائلية الثقيلة.. تصادف وقتَها أننا تواجدنا في زيارة عائلية خاطفة لقريتنا الأم، والتي تتماس خضرتها مع صُفرة الصحراء اليتيمة وجبلها الشاهق.

كانت أصوات النساء مرتفعة بالنُواح، والذي سمعناه أنا وأمي بمجرد أن اقتربنا من هذا البيت الريفي المكلوم.

طلبت مني والدتي ألّا أُبدي أيّةَ علاماتٍ من الفرحة أو السعادة أثناء الزيارة.. فهي كقاهرية كانت حريصة للغاية في التعامل مع أهل أبي من ساكني تلك القرى، والتي مازالت تعيش في حالة خاصة من العادات والتقاليد والقيود الاجتماعية، وربما يُفهم أيُّ سلوك عادي لها كقاهرية، كنوع من السفور أو نقصٍ للحياء.

اقتربنا من دار الفقيد؛ حيث واجب العزاء.. كانت جَدتي - أم والدي- في انتظارنا على بوابة الدار الخشبية العتيقة.. كعادتها كانت جَدتي متشحة بالسواد.. تغطي رأسها بشكل دائري بتلك الملاءة اللف السوداء المصنوعة من الستان، والتي تغطيها من رأسها إلى أطراف أقدامها.

دخلنا إلى الدار والتي كانت تعج بالنساء المتشحات بالسواد في صورة متطابقة مع زي جدتي.. كانت امرأة واحدة أو ربما اثنتان على ما أتذكر، الأكثر تأثراً وحزناً على الفقيد.. كانتا لا تتوقفان عن الولولة والنُواح بشكل هستيري عُصابي، تحيط بهما سيدتان تحاولان تهدئتهما في تلك الحالة النفسية الصعبة.

كانت باقي النساء في عالم آخر.. حيث كل واحدة تتخذ من أخرى خليلة لها، وكانت الأحاديث لا تنقطع بين كل واحدة وأخرى .. في المقابل جلست أنا بجوار أمي وجَدتي في إحدى زوايا المنزل على الأرض المفروشة بالحصير البلدي.. كانت النسوة يأتين إلى جَدتي ليلقين عليها السلام وتشكرهن على تعازيهن.

كانت والدتي محطَّ أنظار الجميع.

 كان زيُّها القاهري الأسود المختلف عن أزيائهن التقليدية لافتاً للغاية؛ مما أثار انتباه جميع المعزيات.

انخرطت ستّي هي الأخرى في حديث جانبي مع إحدى النسوة، بينما أنا وأمي كنا نستمع إلى حوارهن ونتفحص هذا البيت الريفي الغريب الشكل والطابع علينا نحن أبناءَ المدينة.

بينما نحن جالسون.

دخلت عمتي وهي تحمل على رأسها صينية تحمل أنواعاً مختلفة من الأطعمة.. أعطت الصينية إلى ستّي، والتي بدورها أعطتها إلى أهل المنزل.

استمر تدفق الصواني على المنزل من كافة البيوت المجاورة.. واتضح لي فيما بعد، أن تلك الصواني ما هي إلا عادة راسخة في تلك القرى؛ حيث تتكافل العائلات لإطعام هؤلاء المعزّين والمعزيات القادمين من كافة النواحي؛ خصوصاً وأن أهل المتوفَّى المكلومين غيرُ قادرين على عمل الطعام للضيوف.

عند وضع الموائد.. انغمست النسوة في تناول الطعام بنَهَم.. بدون أيّ تأثر بالحالة العامة للمنزل من حزن وشجن.. كان هذا المشهد حاضراً في ذهني دائماً.. لطالما سألتُ نفسي: لماذا لم تمنع مناسبةُ الموت تلك، الجميعَ عن الأكل والشرب بتلقائية وأريحية.. هل هكذا هي الحياة وحال الدنيا وناسها الذين لا يكترثون بوفاة إنسان!

كان المشهد وقتها غريباً أيضاً على أمي ابنة القاهرة؛ حيث واجب العزاء ما هو إلا زيارة سريعة خاطفة من المعزّين إلى أسرة المتوفَّى؛ حيث يستمعون إلى بعض آيات القرآن الكريم، ويشربون القهوة السادة ثم ينتهي المشهد بقراءة الفاتحة على روح الفقيد، ويذهب كلُّ واحدٍ بعد ذلك إلى حال سبيله.

تابعتني جَدتي - رحمة الله عليها- بعينيها خوفاً من أن أتحرك من مكاني؛ خصوصاً وأنها كانت رافضة لحضوري إلى هنا مع والدتي؛ حيث كانت تخشى عيون نساء القرية، والتي قد «تنشني عين» حسداً، على حسب تعبيرها.. فهن لم يعتدن على رؤية طفل قاهري تبدو عليه علامات التدليل ووفرة المال في قرية والدي الفقيرة.

مرّ كلُّ ذلك أمامي كشريط سينمائي عابر.. وأنا أقف حاملاً مظلتي ومرتدياً قبعتي ومعطفي الصوفي الأسود؛ لكي يحموني من قطرات المطر والذي لا يتوقف في فصل الشتاء في مدينة نيويورك.

وقف الجميع متراصين وهم يحملون المظلات مثلي حول المقبرة التي يتم بها دفن صديقنا وزميلنا في مستشفى نيويورك التذكاري دكتور «باتريك»، والذي تُوفّي إثر أزمة قلبية حادة.. كان الجميع يتألمون في صمت عميق.. كانت الزوجة تتقطع ألماً وهي ترى التابوت الذي به زوجها تبتلعه الأرض الطينية للأبد.

انفضت مراسم الدفن سريعاً، والسماء لازالت تبكي؛ ليذهب كلٌّ منّا إلى منزله بدون أية طقوس جنائزية أخرى كما هو الحال في بلدي الأم.. توجهت إلى منزلي وحيداً في سيارتي التي قدتها مخترقاً أمطار السماء.. أدرت كاسيت السيارة على آيات الذكر الحكيم، ثم بدأتُ في الترحم على الجميع.