ارتبط اسمه بهتلر ونيتشه والجماعات المسلحة | «فاجنر».. موسيقار الرومانسية والعنف

فاجنر الجديدة.. تعزف أوركسترا الموت
فاجنر الجديدة.. تعزف أوركسترا الموت

■ كتب: رشيد غمري

تسارعت الأحداث منذ تمرد مجموعة «فاجنر» الروسية المسلحة، التى طفت على مسرح الحرب الدائرة فى أوكرانيا، مثيرة التساؤل عن سر تسمية المجموعة، وعلاقتها بالموسيقار الألماني، ريتشارد فاجنر. وهو الفنان الذي سبق أن ارتبط اسمه بالنازية، وكانت أعماله المفضلة لدى هتلر، كما اعتبره الفيلسوف نيتشه فى شبابه مثله الأعلى، لتعبيره الجامح عن منهج القوة الذى تبناه، بالإضافة لتصنيفه معاديا للسامية، بسبب بعض كتاباته. فمن هو فاجنر، ولماذا ارتبط عبقرى العصر الرومانسى بأسماء وتيارات وحركات عنيفة وعنصرية؟

◄ مجد الأنوثة والتضحية وانقلب على قواعد عصره

◄ اُتهم بعداء السامية وأعماله محظورة فى إسرائيل

◄ تربع مع بيتهوفين على قمة العصر الرومانسي

■ فاجنر مع زوجته كوزيما

لأول وهلة يبدو غريبا أن تتخذ جماعة من المرتزقة المسلحين اسم موسيقار شهير، ليصبح عنوانا يوميا لأخبار تتعلق بالحرب، وليس بعروض موسيقية أو أوبرالية. ويرجع الأمر إلى عام 2014 عندما شارك ديمترى أواتكين، العقيد فى المخابرات العسكرية الروسية مع يفيجينى بريجوجين لتأسيس المجموعة المسلحة، فاختار لنفسه اسما حركيا هو «فاجنر»، تيمنا بالموسيقار الألماني، قبل أن يطلقه على المجموعة، والتى شاركت فى حروب ونزاعات امتدت من سوريا إلى ليبيا وبلدان أفريقية وصولا إلى أوكرانيا. أما تبرير اختياره للاسم فهو كون العقيد الروسى «أواتكين» ينتمى إلى النازيين الجدد، ومن أشد المعجبين بهتلر والرايخ الثالث. فلماذا ارتبط الموسيقار «فاجنر» من الأساس بالنازية، وهو الذى رحل قبل مولد «هتلر» بست سنوات؟.

■ مع زوجته وأصدقائهما

◄ فاجنر والنازية
ضمن الخيبات المبكرة لأدولف هتلر كان إخفاقه فى دراسة موسيقى فاجنر، بعد فشله مرتين فى الالتحاق بأكاديمية فيينا لدراسة الرسم. وقد تعلم العزف على البيانو، وشرع بتأليف أوبرا على غرار أعمال فاجنر. وهى التى اكتشف جزء من مخطوطتها مؤخرًا، وظهر فى «فيينا» ضمن معرض «هتلر الشاب»، والذى ضم الكثير حول حياته خلال الفترة التى قضاها فى المدينة، سعيًا وراء طموحاته الفنية.

■ الموسيقار الألماني فاجنر

لكنه ورغم الإخفاقات، بقى على وفائه لفاجنر، واهتم بشكل شخصى بمهرجان «بايرويت»، العرس السنوى لأوبرا فاجنر. وكان الضيف الأبرز عليه، وهو فى سدة الحكم، بل شارك بنفسه فى تنظيمه، معتبرًا نفسه جزءًا من عائلته والقيمين على إرثه. كما استخدم موسيقاه كتعبير عن رغباته وجموحه، ومثال ذلك أوبرا «الفالكيري» التى جعل موسيقاها تصاحب صور هجومه على جزيرة كريت، وكأنها موسيقى تصويرية، لشريط سينمائى دموى كان يقوم بإخراجه على الأرض. و»الفالكيري» مأخوذة عن إحدى الأساطير النوردية، وهن ربات للحرب، يعنى اسمها «مختار المذبوح»، ووظيفتهن اختيار من سيقتلون فى المعارك، ليأخذنهم إلى قاعة الشرف، ويصرن حبيبات لهم. وتمجيد الموت، من الموضوعات الأثيرة لدى فاجنر، عالجها بجموح، ضمن اعتزازه بالقومية الألمانية، ونقائها العرقي، ومسؤوليتها عن إنقاذ العالم، ولذلك يصنفه البعض كأحد آباء الفكرة النازية. 

■ متحف فاجنر في بايرويت

◄ الجامح المجدد
يعتبر فاجنر من أكثر الموسيقيين المجددين جموحا فى التاريخ، وهو ألماني ولد بدايات القرن التاسع عشر. ومثلت موسيقاه دراما ملحمية، وصفت بالعنف والقسوة، كما وصفت شخصيته بالولع بالذات. كانت تغييراته فى الموسيقى جذرية، أطاحت بالقواعد، وغيرت المفاهيم.

■ مينا وماتيلدا من حبيبات فاجنر

وصف بالمنطقى المستفز، وبالنازى المعتد بقوميته. وعندما ألف أولى ملاحمه، كانت بوحى من موت صديقه، ومات فيها 26 شخصا. اقترب من الموسيقار «فرانز ليست»، وتزوج ابنته، كما اقترب من الموسيقار «بريليوز»، وكلاهما أثر فى أسلوبه. قال إنه علم من البداية أنه سيكون عظيما، لكنه لم يعرف فى أى عمل بالضبط. واعتبر معاديا للسامية، بعد أن كتب مقالا بعنوان «اليهودية فى الموسيقى»، ما اعتبر أيضا تنكرا لأستاذه وصاحب الفضل عليه «مايربير» مؤلف الأوبرا اليهودي.

■ نيتشه

كانت حياته سلسلة من النجاحات والإخفاقات. وعرف بعدائه للمحافظين، وتأييده لثورة مايو 1849، ما اضطره للهرب بعد فشلها. تفرغ فترة للكتابة، وأنجز كتبا مثل «الفن والثورة»، «فن المستقبل»، «الأوبرا والدراما»، كما اعتبر نفسه مصلحا اجتماعيا، وأرجع فساد المجتمع للمادية والصناعة والكنيسة المادية والعسكرية وأكل اللحوم والاختلاط العرقي. ولذلك انحاز للعرق الآرى النقي، واعتبره المنوط بخلاص البشرية عن طريق الفن الذى هو تمثيل حى للدين من وجهة نظره. كما جسدت أعماله تهافت المادية والقوة الذكورية حاملة السيف، حيث الخلاص بالقوة الأنثوية. ومن أهم أعماله «الهنجاري» و«المركب الشبح» و«الهولندي الطائر».

◄ اقرأ أيضًا | الجارديان تسلط الضوء على تسلم أوكرانيا القنابل العنقودية المحظورة دوليًا

◄ حياة متقلبة
على مستوى حياته الشخصيته، كان عاشقا متعددًا، تنقل بين عدة نساء. ورغم قصر قامته، وضخامة رأسه، وبعده عن الوسامة، ومرضه المزمن، وعدم نضجه العاطفي، فقد ظل يحصل على حبيبات جديدات حتى تقدم به العمر.

تخبط ماليًا كما فكريًا وعاطفيًا، وحاصرته الديون، واضطر للهرب من الدائنين. وأحيانا كان يترك أحد أعماله الكبيرة، لينجز عملا سريعا، ليتقاضى عنه المال. وبعد العفو عنه عاد إلى ميونخ حيث سدد الملك ديونه، وألحقه بقصره. وعرف عنه أنه كان يؤلف، وهو يرتدى الحرير والساتان. ورغم اعتداده بنفسه إلا أنه كان أحيانا يتصنع التواضع، ناسبا نجاح أعماله للعمل الجماعي، لكنه كان يصممها بحيث تكون كل العناصر مجرد خيوط فى يديه. 

◄ فاجنر ونيتشه
العلاقة بين «فاجنر» والفيلسوف «نيتشه» كانت غريبة ومعقدة. بدأ الأمر عام 1868 عندما طلب نيتشه الشاب مقابلة فاجنر الذى كان فى قمة مجده. وقد حدث نوع من الانسجام الفكرى السريع، بينهما بسبب آراء نيتشه فى موسيقى فاجنر وخصوصا «أساطين الطرب» التى كان قد أنهاها للتو، وأيضا بسبب إعجاب الاثنين بفلسفة شوبنهاور، وتفسيره الفنى للحياة والعالم. ورأى نيتشه أن فاجنر قد أحيا تلك الأفكار نظريا وحققها عمليا فى فنه، جامعا الفكر بالموسيقى والشعر بالنغم فى دراما موسيقية متكاملة كما فى الدراما الإغريقية. ومن ناحية أخرى فقد أعجب فاجنر وزوجته «كوزيما» بالشاب الأكثر ثقافة من كل الذين دخلوا ضمن دائرتهما، وتكررت اللقاءات. ألف نيتشه كتابه الأول «ميلاد المأساة من روح الموسيقى» واصلا الدراما الفاجنرية بالمأساة الإغريقية، وداعيا إلى نهضة حديثة تقوم على فن فاجنر وفلسفة شوبنهاور كالدور الذى أداه فن «إسخيلوس» فى حياة اليونان القديمة، حالما بعصر تسوده الغريزة المنطلقة، وتخفت فيه أضواء العقل الخالص الذى جعل حياة الإنسان باهتة. ثم كتب مقالا بعنوان «فاجنر فى بيترويت» سرد فيه كل ما كان يجذبه إلى موسيقى فاجنر من قبل، وكأنه ينبهه إلى ما كان ينتظره منه، وهو أن يتبنى إصلاحا شاملا لأفكار العالم وأخلاقه وعلاقاته الاجتماعية.

ويفسر البعض القطيعة بأن نيتشه قد أدرك عجز فاجنر عن تحقيق أفكاره التى كانت قد تبلورت، بل مارس عكسها. وفى لقائهما الأخير، تحدث فاجنر عن مشروعه الجديد أوبرا «باريسفال»، والتى كانت بمثابة عمل يقدمه فاجنر للكنيسة راجيا المغفرة والصفح فى نهاية حياته. وقال إنه يجد فى عمله الجديد لذة لم يجدها فى أعماله السابقة البعيدة عن الدين. وهكذا رأى نيتشه بوضوح مثله الأعلى يركع، تائبا عن أفكاره السابقة، فتركه دون كلمة، وانصرف ولم يلتقيا مجددا. وهكذا اختتم فاجنر حياته شيخا تائبا، وبينما كان جالسا يكتب مقالا بعنوان «عن الأنوثة فى الطبيعة البشرية». وفى منتصف الصفحة الثانية مات بأزمة قلبية. بينما استكمل نيتشه حياته الفلسفية العنيفة بضع سنوات قبل أن يصاب بالجنون. 

◄ مولع بفاجنر
عرف القارئ العربى فاجنر من خلال كتاب لثروت عكاشة بعنوان «مولع حذر بفاجنر». سار فيه على خيط رفيع بين الولع بعبقريته، وبين شخصيته وأفكاره. وذكر فيه أنه عرفه عام 1947 من خلال استماعه لمعزوفة «الحب والموت» لأوركسترا برلين الفيلهارمونى بالقاهرة، فوقع فى عشق موسيقاه، وتابع الاستماع لأعماله المسجلة على اسطوانات، ثم شاهد أوبراته خلال إقامته فى أوروبا. ويصف أوبرا «خاتم النبيلونج» بأنها واحدة من أعظم إنجازات العقل البشرى الخالدة، ومن أروع آيات الجمال الذى انتصر به الإنسان على الزمن والفناء. ويقول إنها كانت دافعه للتوجه إلى معقل الفاجنرية فى مدينة «بايرويت»، حيث المسرح الذى أسسه فاجنر ويحمل اسمه، والذى ابتكر فيه المكان الخفى حيث تعزف الأوركسترا، دون أن تعوق المشهد الدرامي.

كما شاهد سبعة من أوبراته الإحدى عشر، والتقى بحفيديه. وأشار إلى إخراجه أوبراته بنفسه، صانعا ما يشبه المعجزات بإمكانيات القرن التاسع عشر، قبل حتى وجود مصباح كهربائي، وخصوصا فيما يتعلق بخلق الأجواء الأسطورية لأعماله. ومع ذلك فلم يكن راضيا عنها. وأشاد بوفاء زوجته «كوزيما» التى أدارت مسرحه من بعده طوال سبع وأربعين سنة مرتدية ملابس الحداد. كما يشير إلى تحول المسرح إلى كعبة للنازيين فترة صعودهم، ويعزى ذلك إلى صداقة هتلر وأرملة نجل فاجنر «فنفريد»، ما ترتب عليه نكبة حلت به بعد هزيمة النازية، حيث تحول إلى مكان لترفيه الجنود الأمريكيين. واقترح البعض الاستيلاء عليه، بدعوى أن فاجنر كان مسؤولاً عن قيام النازية. ولكن بفضل حفيديه استعاد نشاطه المعتاد عام 1953. ويصف عكاشة دعاوى مسؤولية فاجنر عن تأسيس النازية بالمغرضة. 

هذا هو «فاجنر» الموسيقار التى تربع على عرش النصف الثانى من العصر الرومانسي، وهو العصر الذى تربع بيتهوفين على نصفه الأول، فاجنر المجدد الجامح، الذى بالغ فى حب قوميته، فنسبت له النازية، واستخدمه البعض كخلفية، بينما كانوا يخوضون الحروب أو يمارسون العنف والعنصرية.