«حرم السفير» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل

فراج أبو الليل
فراج أبو الليل

الزبائن كثيرة ..السوبر ماركت مزدحم عن آخره.. إنه اليوم الأول من شهر رمضان المبارك .. الياميش والمكسرات والزبيب وكذلك جوز الهند أوشكت كل الكميات أن تنفذ من كثرة الطلب عليها .. أرهقته الزبائن بكثرة الطلبات.. مشرف البقالة "الكردي" أرهقه أيضاً بصوته المزعج كصوت الضفدع الحائر في البرك .. يلقى بالأوامر عليه كأنه رئيس حي الدقي....الزبائن تلتهم كل ما في السوبر ماركت .. هل ستحدث مجاعة قريباً؟.. ماذا جرى وتساءل؟ بلا إجابة شافية....إنه شهر كريم .. وكلمات من هذا القبيل .. كلها إجابات غير مقنعة بالمرة.

 

توقفت سيارة أمام السوبر ماركت.. خرجت منها سيدة أنيقة الثياب.. تفوح من ثناياها رائحة الغنى .. نزلت معها آنِسَة عشرينية جميلة.. ترتدي أحدث أزياء ذلك العصر.. تضغط على زر في مفتاح السيارة السوداء اللامعة فأحدثت أزيز بسيط وتم إحكام قفل السيارة بذلك الشعاع الذى يسمونه الليزر.. دخلتا السيدة الأنيقة والآنسة الجميلة السوبر ماركت....تجمّع حولهما عمال الصالة ...

الكل يستعد للأوامر ماذا تريد السيدة الأنيقة؟....الكميات التى تريدها ....كل ما أشارت إليه أتوا به داخل عربة التسوق ...ملئت العربة الأولي ...ثم عربة آخرى ...وهكذا حتى خمسة عربات....زعق كعادته مشرف البقالة "الكردى " فيه "حامد"...ومعهم أنا أيضاً اسمي "هيثم" ....التف الجميع حول السيدة والآنسة ...أحطنا بهما ننتظر الأوامر...الكل يهرع إلى السيدة...يقبل الأرض...يلعقون كل الأحذية التى تقابلهم ..ازدحمت الصالة بالعمال حول السيدة.

انسحبت إلى ركن في المحل .. أراقب الموقف .. متأمَّل الجنيهات التى تدس في الأيادى الممدودة .. صديقى "حامد".. أسرع هو الآخر إلى السيدة .. شد يدى لأسرع معه .. تعثرت قدماى .. وانتزعت يدى منه بقوة .. صرخت فيه أسرع لوحدك .. تركنى مُتوجِّهاً إليها.. ثم أتانى فرحاٌ.. عشرة جنيهات تلمع .. جديدة .. صوتها ساحر.. يده تهمس لها في رقة ووداعة .. زملائى في الأرضية في السوبرماركت .. زرعوا العشرات من الجنيهات في عيناى ..كل واحد منهم .. يأتى ليزرع الورقة البنكنوتية اللامعة في عيناى ويرحل .. كادت عيناى أن تنفجر..الأوراق البنكنوتية أنبتت شجيرات كثيفة الأغصان .. سدت منافذ الرؤية .. أَلَحَّ علىّ صديقى "حامد" وأشار بالتكبر .. وقال بأنى مازلت بأحلام الجامعة الوردية.. ذكرنى بأنى لست الآن في كلية الحقوق .. والحق هو أن البطالة تلتهمنا.. حثنى على الإسراع إليها .. ترددت .. ثم تقدمت .. ثم تراجعت.. تشبثت قدماى بالأرض.. الكل ينظر إلىّ .. يحثنى على الخروج .. تراجعت.. علا صوتى بالخجل .. توارات حرارة جسمى بالكسوف .. أوصالى دب فيها الموت.. انتظرت برهة وإذا بدفعة تأتينى من خلفي من صديقى "حامد".. فخرجت إلى السيدة الأنيقة .. كانت قد تحركت نحو سيارتها السوداء الأنيقة أيضاً .. والجميلة واللامعة كجمال وجهها الناضج .. خرجت مسرعاً خلفها .. دخلت السيدة الهادئة سيارتها.. رأتنى مقدماً عليها .. أشارت إلىّ .. أسرعت والخجل يكسونى .. كانت شمسى بدأت تتوارى من الكسوف .. كاد قلبى يتحطم .. دقاته بدأت تزداد .. الأفكار تداعت في رأسى .. أحلام النيابة .. أشارت مرة آخري.. توقفت .. تصبب العرق من جبينى .. غرقت في نفسى .. ابتلعتنى الأرض  .. لوحت بيدها تقدمت .. طأطأت رأسى .. نظرت إلى عينيها المدللتين .. اخترقت سهامهما قلبى .. زادتنى خجل وحيرة .. مدت يدها بالورقة الحمراء .. عشرة جنيهات لامعة .. مددت يدى وأنا ارتعد .. تقطر العرق من جبينى .. رمقتنى السيدة الأنيقة بنظرة ألهبت كيانى  .. عاودت النظر إليها مجدداً .. انتبهت .. كأنى رأيتها لأول مرة .. تهت لحظة ..الوجه الملائكى .. العيّنان الخضراوان .. العطر الفائح والرائع أيضاً.. نظرت لوجهها .. وتساءلت أين رأيته ؟ تلك النظرات الحالمة .. رأيتها من قبل .. من تكون تلك السيدة؟ وجدتها تنظر إلىّ هى أيضاً بدهشة .. أشارت بإصبعها الناعم .. وبصوت متقطع .. أنت "هيثم متولي"

 

.. خفق قلبى لها .. تذكرتها .. كانت تستعير منى ما ألخصه من المحاضرات في كلية الحقوق .. كتبت لها أول قصيدة شعر في حياتى كانت بدائية .. بلا وزن .. خالية من صنعة الشعر .. ولكنها صادقة الإحساس .. كنا نلتقى بعد المحاضرات في ساحة كلية العلوم .. خلف قبة جامعة القاهرة .. أحياناً كنا نجلس بجوار عمود ساعة الجامعة .. حتى نسمع دقات الساعة فنعرف كم من الوقت استغرقنا في الحديث والتأمل .. الكل كان يتوقع أنه سيتم تعيينى معيداً بالكلية .. ولكن القدر شاء غير ذلك .. استيقظت ذكرياتى .. عندما رأيت "ياسمين " التى لم أرها منذ سبعة سنوات .. كانت ملهمتى في الدراسة .. حضنتُ خيالى معها ألف مرة .. ولكنها أختفت لم أعرف عنها شئ وهاهى أمامى .. أريد أن أسألها .. أين كانت ؟

 

لماذا أختفت من حياتى فجأة؟ .. نظرت إليها وجدت نفس الأسئلة تطل من عينيها .. ماذا جرى لك يا "هيثم" ؟.. ونطقت شفتاها وبدأت أتأملها وهى ترسل الأسئلة .. أنت لم تفكر في الأتصال بي منذ تخرجنا .. من الذى أتى بك إلى هنا؟ .. ما هذا الذى ترتديه؟ ..عاودت الصمت .. ماذا أقول ؟ ماذا؟ ...هممت بقولى لقد مزقت رقم تليفونك .. ومزقت الحب ..لأنى حلمت بك وبالمعيد .. وبالنيابة .. لم أحصل على شئ .. إلا الهواء الذى يعاندنى كل صباح يأتينى محملاً بالأتربة وعادم سيارات الملاكى التى سدت شوارع القاهرة .. نظرت في عينى فوجدت الدموع تبكي في مقلتى .. فصمتت وكفت عن الأسئلة .. تراجعت يدى الممدودة .. انكمشت لقد بدت كأنها مشلولة.. تراجعت يدى إلى جانبى .. أخفيتها .. أخفيت عرى جسدى ويدى من الحرج والخجل .. الآنسة تنظر الىّ .. تتفحصنى عيناها .. رقت لحالى .. أخرجت ورقة بمائة جنيه .. ألحت علىّ لأخذها .. لكنى تجمدت في مكانى وكذلك يدى .. التى لا زالت بجانبى .. التصقت بى لتتوارى عن عيناهما .. تحاول الاختباء في لحمى .. الذى تحول إلى كاوتش ساخن ملقى على الأسفلت .. سحقته أقدام المارة .. والممدود بلا حركة .. حاولت الانسحاب .. جريت من أمامهما .. خرجت "ياسمين" .. نادت علىّ .. الكل ينظر .. ويتعجب .. ويتساءل .. ماذا جرى؟

 

لماذا تجرى ورائي؟ .. اِلْتَفَت إليها .. وقفت قبالى .. انفلتت شفتاها .. بكلمة الحب ..ابتلعتنى عيناها .. عادت إليها نظرات الحب القديمة .. دست في جيبى كارت به رقم تليفونها وورقة بنكنوتية كبيرة .. قبلتنى بحرارة أمام الجميع .. ورحلت .. أسرعت إلى المخزن بجوار السوبرماركت .. دخلت المرحاض .. وضعت رأسى تحت الصنبور .. وفتحت الماء على رأسى لأفيق .. وأخذت أتمتم .. ماحدث كابوس مزعج ؟... فركت عيونى .. لعلنى نائم .. رفعت وجهى وقطرات المياة تتساقط على ملابسى .. نظرت في المرآة .. بدأت أتحسس وجهى الذى هرب منى ومن ذكرياتى .. تلمست لحمه الأبيض والذى بدأ يتساقط مع قطرات الماء .. صرخت .. ملئت كفي بالماء .. ضربت وجهى بكفي وبالماء .. انتبهت .. أخرجت الكارت .. قرأت ما به .. "ياسمين جلال".. حرم السفير "عادل القوصى" .. فعاودت البكاء.