عاطف عبد العزيز يكتب : فى معاداة الخفة

محمود قرنى
محمود قرنى

بعيدًا عن مقام الرثاء، يمكن القول إنه بغياب محمود قرنى المباغت، ستكون أجيال ما بعد السبعينيات قد فقدت عرابها وقائدها الحركى الملهم، إذ أسهم الرجل - دون أدنى مبالغة - فى تقديم وتدشين أغلب الأسماء التى تتصدر المشهد الشعرى الراهن بما فى ذلك أبناء جيله، كان ذلك عبر العديد من المجلات والمطبوعات الخاصة التى ظهرت منذ بداية تسعينيات القرن الماضى، والتى لعب محمود دورًا أساسيًا فى تحريرها من مثل: مجلة الكتابة الأخرى، ومجلة مقدمة وغيرهما.

ذلك فضلًا عما سبق، فقد أسس محمود الجماعات الشعرية، وصاغ البيانات السياسية والجمالية، وأقام مع آخرين الملتقيات والفعاليات الثقافية المستقلة مثل: ملتقى قصيدة النثر اللذين أحدثا دويًا كبيرًا فى حينها، ثم كان أن أسس بعد ذلك مع رفاق له منتدى المستقبل، ومن بعده منتدى الشعر المصري ، لم يكن محمود من شعراء عطلة نهاية الأسبوع، إذ ظل الشعر -بحق- ماءه وهواءه ودمًا يجرى فى شرايينه، بل ظل الشعر طريقته فى الحياة، من هنا اكتسب سعيه الشعرى -إضافة إلى بعده الجمالى- بعدًا شبه سياسى، اتسم بالحدة والصرامة، متأثرًا فى ذلك -ربما- بخلفيته الأيديولوجية.


وخلافًا لما جرى لغالبية النخب المصرية والعربية فى العقود الأخيرة، لم يخضع محمود للتجريف العقائدى، أو لما يمكن تسميته بالتحلل الأيديولوجي، بل ظل مؤمنًا فى قرارته بأن سقوط الحكايات الكبرى ليست سوى شائعة سخيفة، تسعى إلى تمهيد الأرض أمام مخطط العولمة، على أن هذا الإيمان لم يكن ليتلف تجربته الشعرية النقية، التى جاءت مؤسسة على الموهبة الناصعة من جانب، وعلى فهمه الدقيق لماهية الشعر من الجانب الآخر. ومن ثم فقد استحالت تلك القناعات الأيديولوجية داخل قصيدته، إلى باطن فلسفى عميق، ينتصر من طرف خفى للفقراء فى كل مكان بالعالم، بل ويكرس لفكرة العدالة ذاتها بمفهومها الأوسع، ذلك كله ودون الوقوع فى أية مباشرة.


اتسمت تجربة محمود قرنى الشعرية طوال الوقت بالرصانة والاحتراز من الخفة، ما جعل قصيدته عملًا جماليًا ومعرفيًا فى آن واحد، وجعل غالبية نصوصه أقرب -فى معمارها- إلى الكاتدرائيات الشاهقة المهيبة، هذا فى الوقت الذى كنت أحرص فيه -أنا وغيرى من أبناء جيله- على خلخلة نصوصنا، وحقنها بشىء من الهشاشة التى تجعلها أقرب إلى الإنسان المعاصر فى حيرته وضياعه. 


اتصفت صداقتنا -محمود وأنا- بالشمول، إذ لم تشتمل على المحبة العميقة والاحترام المتبادلين فحسب، بل أيضًا لم يكن لينقصها الخلاف الذى قد يصل إلى حد القطيعة أحيانًا، فقد كان يرحمه الله رادبكاليًا صارمًا على طول الخط لا يقبل بأنصاف الحلول ، الأمر الذى أكسبه - من وجهة نظرى- مزيدًا من العداوات والخصومات التى لا لزوم لها، بينما كنت أنا -بحكم تجربتى- أرى العالم طيفًا واسعًا من الرماديات والتأويلات، الأمر الذى جعل لدى على الدوام هامشًا عريضًا من التسامح مع الضعف الإنسانى.


مع ذلك فعلى أن أعترف بأننى تعلمت الكثير على يدى محمود قرنى لاسيما فى عالم السياسة، فقد كان ذا تجربة معتبرة فى هذا المضمار أكسبته حدسًا وطنيًا لا يخيب، ومقدرة على اتخاذ المواقف الفورية السليمة تجاه الأحداث الطارئة ، الأمر الذى جعله على سبيل المثال يتخذ موقفًا غاضبًا من النخب المصرية المهترئة، بعدما أسلمت - بسذاجتها- ثورة يناير إلى التيارات الدينية تحت شعارات زائفة، ولعل ذلك ما دفعه إلى تثمين مضاعف لدور الجيش المصرى فى استنقاذ الوطن، بوصفه أحد أبرز مكونات الدولة الوطنية المصرية الحديثة.


فى قرية العدوة القريبة من مدينة الفيوم حيث سعينا خلف جثمانه، وجدتنى أتأمل تراب السكك باحثُا عن أثر لقدميه دون جدوى، كنت أفتش على ما يبدو عن أثر الفتى الذى خرج من هذه الزاوية المنسية، كى يشغل حياتنا الثقافية على هذا النحو المثير منذ نهاية الثمانينيات، كى يكون فى النهاية -كما شاء لنفسه- آخر حكاياتنا الكبرى.