خواطر الإمام الشعراوي .. الفساد أمر طارئ فى الأرض

خواطر الإمام الشعراوي
خواطر الإمام الشعراوي

يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية:« وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا» من سورة البقرة موضحا أن «تولى» : انصرف أى يقول لك ما يعجبك، فإذا تولى عنك نقل المسألة إلى الحقيقة بإظهار ما كان يخفيه، ويحتمل المعنى أنه إذا تولى شيئاً آخر، من الولاية، ففيه «تولى» من التولى وهو الانصراف والإعراض، وفيه «تولى» من الولاية.

«وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل» كانت الأرض بدون تدخل البشر مخلوقة على هيئة الصلاح، والفساد أمر طارئ من البشر.
ونعرف أن الفساد لم يطرأ على أى أمر إلا وللإنسان فيه دخل.

لماذا اشتكينا أزمة قوت ولم نشتك أزمة هواء؟ لأن الهواء لا تدخل للإنسان فيه، وبمقدار تدخل الإنسان يكون الفساد. لقد تدخلنا قليلاً فى المياه فجاء فى ذلك فساد، فلم نحسن نقلها فى مواسير جيدة فوصلت لنا ملوثة، أو زاد عليها الكلور أو نقص. وبقدر ما يكون التدخل يكون الإفساد، أما فى الزمن القديم فقد كان الإنسان يذهب إلى مصدر الماء المباشر فى الآبار ويأخذ الماء الطبيعى الذى خلقه الله بلا تدخل من الإنسان ولم يكن تلوث أو غيره.

إذن على مقدار وجود الإنسان فى حركة الحياة غير المُرشّدة بالإيمان بالله ينشأ الفساد، ولذلك كان لابد له من منهج سماوى للإنسان. والكائنات غير الإنسان ليس لها منهج وهى مخلوقة بالغريزة وتؤدى مهمتها فقط؛ فالدابة لم تمتنع يوماً عن ركوبك عليها، ولم تمتنع أن تحمل عليها أثقالك، أو تستعين بها فى الحرث، أو الري، حتى عندما تذبحها لا تمتنع عليك، لماذا؟ لأنها مخلوقة بالغريزة التى تؤدى بها الحركة النافعة بدون اختيار منها. وإذا امتنعت فى وقت فإنما يكون ذلك لأمر طارئ كمرض مثلا.

لكن الذى له اختيار لابد أن يكون له منهج يقول له: افعل هذا ولا تفعل تلك. فإن استقام مع المنهج فى (افعل) و(لا تفعل) سارت حياته بشكل متوازن، لكن إذا لم يستقم تفسد الحياة. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: « وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا»، كأن الإفساد هو الذى يحتاج إلى عمل، اترك الطبيعة والمخلوقات كما هى تجدها تعمل فى انضباط وكمال على ما يرام.

إذن فالفساد طارئ من الإنسان الذى يحيا بلا منهج لأنه « وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا» فكأن الأصل فى الأرض وما فيها جاء على هيئة الصلاح، فإن لم تزد الصالح صلاحاً فلا تحاول أن تفسده. قال تعالى:« وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ».

ومن هنا نفهم أنهم ظنوا أن الأرض تحتاج إلى حركتهم لإصلاحها، برغم أن الأرض بدون حركتهم صالحة؛ لأنهم لا يتحركون بمنهج الله.

إذن هذه الآية نفهم منها أن الإنسان إذا «تولى» بمعنى رجع أو تولى ولاية سعى فى الأرض ليفسد فيها؛ فكأن الفساد فى الأرض أمر طارئ وينتج من سعى الإنسان على غير منهج من الله. وما دام للإنسان اختيار فيجب أن يكون له منهج أعلى منه يصون ذلك الاختيار، فإن لم يكن له منهج وسار على هواه فهو مفسد لا محالة.

وانظر إلى غباء الذى يفسد فى الأرض، هل يظن أنه هو وحده الذى سيستفيد فى الأرض، فأباح لنفسه أن يفسد فى الأرض لغيره؟ إنه ينسى الحقيقة، فكما يفسد لغيره، فغيره يُفسد له، فمن الخاسر؟ كلنا سنخسر إذن.

«وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل..»، والحرث له معنيان: فمرة يُطلق على الزرع، ومرة يُطلق على النساء، المعنى الأول ورد فى قوله تعالى: «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم» «الأنبياء: 78».

فالحرث فى الآية معناه: الزرع، والزرع ناتج عن إثارة الأرض وإهاجتها. وعملك يا أيها الإنسان أن تهيج الأرض وتثيرها، وتأتى بالبذر الذى خلقه الله فى الأرض التى خلقها الله، وتسقيها بالماء الذى خلقه الله، وتكبر فى الهواء الذى خلقه الله، ولذلك يلفتنا وينبهنا الحق سبحانه فيقول: «أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون» «الواقعة: 63-64».

والمعنى الثاني: يُطلق الحرث على المرأة فى قوله تعالى: «نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ» وإذا كان حرث الزرع هدفه إيجاد النبات فكذلك المرأة حتى تلد الأولاد. ويقول سبحانه وتعالى: « فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ».

وأراد المتحللون الإباحيون أن يُطلقوا إتيان المرأة فى جميع جسدها، نقول لهم: لاحظوا قوله: (حرثكم) والحرث محل الإنبات، فالإتيان يكون فى محل الإنبات فقط، لا تفهمها تعميماً وإنما هى تخصيص. ويتابع الحق وصف الذى يقول القول الحسن، ولكنه يسعى فى الأرض بالفساد فيقول: «وَيُهْلِكَ الحرث والنسل». والنسل هو الأنجال والذرية.

ويذيل الحق الآية: «والله لاَ يُحِبُّ الفساد» أى أن الحق يريد منكم إن لم تدخلوا بطاقة الله التى خلقها لكم فكراً وعطاء، فعلى الأقل اتركوا المسألة كما خلقها الله؛ لأن الله لا يحب أن تفسدوا فيما خلقه صالحاً فى ذاته.

وما سبق فى هذه الآية هو مجرد صورة من صور استقبال الدعوة الإسلامية فى أول عهدها، من الذين كانوا ينافقون واقعها القوي، فيأتون بأقوال تُعجب، وبأفعال تُعجب من ينافق. ونعرف أن النفاق كان دليلا على قوة المسلمين، ولذلك لم ينشأ النفاق فى مكة، وإنما نشأ فى المدينة. فقد قال الحق: «وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق» «التوبة: 101».

وربما يتساءل إنسان: وكيف تظهر هذه الظاهرة فى البيئة الإيمانية القوية فى المدينة؟ ونقول: لأن الإسلام فى مكة كان ضعيفاً، والضعيف لا ينافقه أحد، والإسلام فى المدينة أصبح قوياً، والقوى هو الذى ينافقه الناس.

إذن فوجود النفاق فى المدينة كان ظاهرة صحية تدل على أن الإيمان أصبح قويا بحيث يدعيه مَنْ ليس عنده إسلام. وهؤلاء كانوا يقولون قولاً حسناً جميلاً، وقد يفعلون أمام من ينافقونه فعلاً يُعجب مَنْ يراهم أو يسمعهم، ولكنهم لا يثبتون على الحق، فإذا ما تولوا، أى اختفوا عن أنظار مَنْ ينافقونه رجعوا إلى أصلهم الكفري، أو إذا ائتمنوا على شيء فهم يسعون فى الأرض فساداً.

والآية هنا تتعرض لشيء يدل على فطنة المؤمنين، إن الآية فضحت مَنْ نافق وكان الأخنس عمدة فى النفاق، وفضيحة المنافق بهذه الصورة، تدل على أن وراء محمد صلى الله عليه وسلم ووراء المؤمنين بمحمد، ربَّاً يخبرهم بمَنْ يدلس عليهم.

إقرأ أيضاً|خواطر الإمام الشعراوي .. حسنة الدنيا وحسنة الآخرة