«الصدأ» قصة قصيرة للكاتب حسن رجب الفخراني

الكاتب حسن رجب الفخراني
الكاتب حسن رجب الفخراني

تراه قد تجلى فوق وجوه الجدران, وباء تفشى في كل الأبنية وقد صارت عتيقة ومهزومة , وعبارات العشق والهيام التي لوثت عبقها التاريخي لم ترأف حتى بالأشجار التي كانت يوما تزهو بالنضرة, بعدما اكتساها الشحوب وصفرة الألم الضارب بجذوره والتي تكاد تمزقها.

 

تتساقط الأوراق الحزينة من تقاويم الزمن, وتكاد الشوارع التي كانت تنبض بالحياة, تخلو من نبضها الشبابي، والشمس تحاول ان تجمع بقاياها المبعثرة تحت المقاعد الحجرية, أو من أسفل الشرفات التي أصابها الصمت في مقتل.

 

انهزام الموج العاتي علي رمال الشاطئ المتيم بالعطاء, واختناقه أسفل الأحجار الصماء التي ألقيت علي صدره الطفولي البكر.

تظمأ الاحلام علي الدرج الخشبي والخشية التي صارت قبلة للوهم الساكن في الأحداق الوجلة.

تحاول أن تتسلل خفية من بين خيوط الغروب, تحاول أن تطالع من خلف نافذة المنع, شروق  الغد فوق منصتها العتيقة .

اغتراب الدرب, وانحسار الغيث من سمائها, تلك هي أيقونة التفرد, والسمو فوق راحات الجوعى, التي لا زالت تتسول تاريخها وهامتها التي كانت ذات يوما للتفرد عنوان .

 

ولا زالت الشمس تعلو في عزة وإباء, ولا تكترث لأهات الموج الصابر فوق صفحات كتبها العتيقة.

لا يزال للخريف إلىد الطولي بين دور العبادة التعليمية, وانكسار الهامات والقامات في محراب الحاجة .

اللافتة توشك أن تنهار, ربما قد هرمت ولم تعد تشعر وربما عوامل الإهمال واللامبالاة - ما أكثرها – ومن بين الثنايا المهزومة يقفز عليها وجه الصدأ. 

 

اقتعد مقعده الخشبي – تعود علي هذا- طيلة رحلة عمره منذ أن وطئت قدماه الباب الحديدي أسفل اللافتة التي خسرت كثيرا من حروفها, يرمق شروق الأمل من بين الغمام الذي يخفي القوارب التي تشق عباب الآمال , تلذ له لسعة البرد الصباحية وكأنها قبلة الحياة اليومية له.

 

وما أن يشرع الشاطئ البريء في ترك هويته الأصيلة, ويضع بدلا منها قناع يتاح لديه العهر وصبغة الحرية السوداء, حتى يفر منه خوفا أن يصاب بتلك اللعنة إلى صومعته التي لم يبرحها طوال معاشرته الدنيا.

كم طالع من وجوه .

وكم شاهد من أبواب تنحني, وأخري تنكسر, وهو لا يملك ‘لا الصمود في وجه طغيان تلك المصطلحات الغريبة التي أصبحت كالطلقات مجهولة الهوية, وربما هي طعنات لا يقر لها قرار سوي أن تقتنص من بين الأغصان البلابل كي يسكن بدلا عنها الغربان.

تحامل علي عصاه العتيقة, وهو من خلف المنصة يلقي محاضرته التي سمعها الكثير ومنهم من تبوء من المناصب أعلاها , ومن صار ملء السمع والأبصار , الجدران صامتة تلتقط كل حرف يلقيه كما الطير ينتظر العطاء كي يحتفظ بجهازها التنفسي بلا سكون .

 

علي ذات المقعد يوما ما , كان هو جالسا عليه , ومثله ممن انحني لهم القلم وصفق , وربما لا تزال رائحة عرقهم الممتزج بالبحث المضني والجوع القارص هي الممتزجة بعظامهم. 

 

في غفلة من الجميع تحاول يده أن تسلل إلى مؤخرة تلك الجالسة بجانبه والتي حشرت نصف جسدها السفلي في بنطال يوشك أن يتمزق جراء هذا الاكتناز , أما النصف الآخر فهو من دعاة الحرية ويكفي بلوزة خفيفة تترك كل التضاريس علي خريطة جسدها متاحة لكل الباحثين.

كلاهما لم يعِ هل بدأ محاضرته , أم تراه قد انتهي منها.

بعض الريح المثخنة بالوجع لا تزال تنتظر ساعة السحر كي تسافر فوق وجه البحر الصامت والمتدثر برداء العزة وقد أوشكت أن – قهرا عنه- تنهمر دموعه.

يحاول العامل الذي أنهكه الشيب والتذلل للكبار أن يحوي في صدره قدر ما يستطيع أوجاع قديمة في شوارعها , ويخفي أحزان صبره.

نظر إلى جميع الحضور في غضب ثم قال صارخا

: إلى متى الصبر عليه, ألا يعرف أن عصره قد ولي , ألا يعرف أننا لا نصبر عليه إلا رفقا بشيبته وعجزه , وليس كما يظن لعلمه الواهي؟

بعض الهمهمات سرت بينهم إلا أنها تلاشت كالبخار لحظة شروق الشمس , ووجه الصمت أصبح هو الوحيد الجالس.

كان يظن أن هذا الاجتماع لتكريمه , لا لقتله معنويا , ترك القاعة لمن فيها وتحت إبطه أحدث كتبه , وسار بمفرده في شوارع الجامعة يتذكر، ذكرى، هنا وفكرة ألحت عليه هناك، ومبدأ زرعه مثل الشجرة, واليوم ثماره في الأفواه , يعرف تلك اليمامة التي تحلق فوق الشجرة التي تعرت من أوراقها.

الموج ربما للمرة الأولي يزأر , في غضب عارم , والرمال من فوق الشواطئ تحاول الفرار قدر طاقتها , وبعضها يلقي اللوم علي البعض الآخر, ويتهمه بأنه السبب، على أنه لا زال باقيا حتى اليوم

ينفعل الموج ويهدر في عنفوان, يصمت الجميع .

في يأس , ينزع عنه شارته وهو يقول محتدا

: هذا ليس ذنبكم بل هو خطيئتي الكبرى, ربما لو هاجرت وأنتم معي صفحات هذا الكتاب البالي, لتغير في حياتنا الكثير.

لا زال جالسا علي مقعده يطالع كتاب، والأبواب الحديدية توشك أن تنهار أسفل اللافتة, التي كسرها وأثقلها الحزن.

والشمس في شروقها تميل للغروب.