«مانحُ الرُتَبْ» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل

قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل
قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل

«مانحُ الرُتَبْ» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل

يقف على الباب الرئيسي للخروج لسوبر ماركت أبو ذكري بشارع محى الدين أبو العز بحي الدقي .. ليس كأي فرد من أفراد الأمن صامتاً .. فهو لا يشبه الأمن في شئ ... فهو ديناميكي الحركة ... يخرج سيجارة وينفث بذكرياته في الهواء ... يخرج كل ما في جوفه من ألم وحرقة... ألم السنين وحرقة العيش ... يضحك فتبدو تجاويف فمه بلا أسنان وقد أكلتها السنين وتركت وشاحاً بني اللون على سنتين وحيدتين ... ينادي على الكاشير " أحمد" حاسب لستّ الكل..."أحمد" الباشا مستعجل ... يريد كرتونة مياه "أكوا"..."أحمد" الدكتوره ...لا تقف... حاسب لذبونة المحل .

نظر لذلك الكاشير الشاب والغضب يطل من عينيه ، يكاد ينفجر من كثرة تدخله في عمله، وكثرة كلامه أيضاً ..لقد تخطى ذلك الرجل والذي يدعى " عم ربيع " حاجز السكون، وتقلب في الحياة على أوتارها المشدودة على أخرها ، فمزج بخبرات سنينه في عمله هذا في سوبر ماركت " ابو ذكري " يلون "عم ربيع " الأيام والليالى بألوان خاصة على مزاجه ، يدخل في أفكار كل من أمامه ... يلتقى مع أحلامهم ... ربما يسرق كل ما يتمنونه فيلقيه لهم في كلمات مدح ... تسرق كل ما في جيوبهم من نقود معدنية ...

أحياناً أتعجب من تكييفه للأمور لصالحه، يعطى الرُتَبْ سواء باشا أو بيه أو دكتور على حسب نقوده وبقشيشه، يمنح عجوز شمطاء جمال "هيفاء وهبي" وكذلك يمنحها دكتوراه فخرية من بريطانيا، فتخرج نقودها المعدنية فتذرعها في يده المرتعشة، فيدسها في جيبه الواسع، يخرج منديلا ويجفف ما تبقى من شعر على رأسه الصلعاء إلا من جانبين، ينتبه لقدوم فتاة أنيقة ربما ذبونة دائمة هكذا سمعته ينادى عليها "يارا" ويحفظ أسماء مرتادي السوبر ماركت ربما لقدمه في العمل والتي تخطت  كما يدعي عشرين عاماً،  فهو يعرف كل كبيرة وصغيرة في شارع محى الدين أبوالعز ...

يلتفت إلى "يارا " وهى تدفع الحساب للكاشير، ويدخل عينيه وفمه في حقيبة يدها يقلبها بأصابع عينيه، يعد ما فيها من نقود، يتلمس تلك النقود بأطراف عينيه، يتمنى أن يحتضن تلك الشنطة بزراعيه القصيرتين ويهرب ... يهرب من فقره وقصر قامته وكرشه الممدود والفارغ إلا من الماء والفول، فينتفض قلبه ويدق دقات عنيفه، لقد لاح البقشيش أمامه، فهم بإلقاء كلمات المدح التي سرقها من سراديب أحلامها فتنتشي وتطرب تلك الفتاة بكلمته دكتورة، الجمال والدكتوراة كلمتان سرقت كل شئ، أعرف مدى حب الفتيات للجمال، ولذلك فمن حقها أن تفرح ولكني عجبت لسحر كلمته دكتورة والتي  ما إن سمعتها حتى سمت وتزينت لقدوم عريس أو فارس مغوار، تخيلت أن الأصابع تتجه إليها بهاتان الكلمتان، " الجمال والدكتوراة " وعجبت لمعرفته بسر الفتاة والشخوص التي يتعامل معها ويمنح اللقب الذي يروق لكل شخص والذي لم يتعب في معرفته بحكم خبرته التي تخطت حاجز الستين عاماً، ألقى بكلماته الممزوجة بدهاء السنين، فخرجت الجنيهات المعدنية فدسها في كفه الضخمة وألقى بها في جيبه، فتحدث رنات تجعله يتمايل طرباً كراقص أثملته الخمور ، فقد نصب الشراك وفاز بالغنيمة التي رغبها .

أتى دوري للحساب لم يناديني باسمي "تامر" ..  نظر إلى وتفحصني وتقدم ثم تراجع ... فتراجعت معه كل أمنياتي في الحياة ، هل شكلي لا يعطي شكل دكتور ... ثيابي بسيطة.....تى شرت وبنطلون جينز .. ونظارة طبية ربما تدل على العلم .. ولكن ثيابي ارتديها منذ أعوام .. وكيف بي أن أشتري ثياباً جديدة ، حيث أعمل بقصر ثقافة الجيزة التابع لوزارة الثقافة بجنيهات قليلة.. وحاصل على الدكتوراه في الأدب المقارن .. وتساءلت لماذا غابت عني ...؟ أين الدكتوراه لتمنحني اللقب ؟...الذي يوزعه ذلك الرجل "المدعو عم ربيع " على كل شخص بلا سبب وبلا أدنى مسئولية .. نظر إلىّ ثانيةًكأنه يقرأ أفكاري .. يعصر عقلي .. يدخل في تجاويف قلبي ليعثر على شئ .. أحسست بتيار الكهرباء يمر خلال شرياني ويخطف سر حياتي .. تقدم إلىّ فعادت إشراقة وجهي النحيل فابتسمت عيناي قبل شفتيّ ، عاد الحلم لمرساه الرئيسي، كدت أصرخ فيه يا هذا ...أنا دكتور ...ولكنى فقير مثلك ...جائع مثلك ...عاري إلا من ثيابي هذه ...التي ارتديها منذ ثلاث سنوات ...ارتديها للخروج فقط ...وتساءلت كيف عرف بفقري ..؟ هل من زجاجة المياه المعدنية الوحيدة ..؟ وقطعة الحلوى التي لا تكفي طفل .. أم من زجاجة البيبسي التي تكاد تهرب من يدي .. والتي بدت كحبة قمح في صومعة غلال ليس بها إلا تلك الحبة فقط .. عاد وسرق الحلم الذي بعت حياتي ورياحين عمري لكى أحصل عليه ..."لقب دكتور" وتعجبت: حتى أنت بخلت علىّ باللقب .. لماذا..؟ عاد وهلل إلىّ ونادى على الكاشير "أحمد " لا تترك الدكتور يقف كثيراً خذ الحساب منه بسرعة لكى لا يتأخر .. رجعت من المتاهة وابتسمت وغرقت في لقبي المفقود على الرغم من حصولي عليه والذي يوزع بلا تعب مقابل بعض النقود المعدنية .. فوجدتني أخرج كل ما في جيبي من نقود أعطيتها لة فزاد من مدحي وكرر شكراً يادكتور .. شكراً يادكتور .. لم أشعر بنفسي كنت أعتلي نجمة في السماء وأسبح معها في فضاء العشق .. لم أدر بنفسي إلا بعد خروجي من السوبر ماركت .. وبدأت في تحسس جيبي فوجدته فارغاً من مصروف الشهر .. فعرفت أني جائعٌ لا محالة لباقي الشهر.. فمضيت برغم حزني وجوعي المنتظر سعيداً أعانق هواء المساء .