طلقات

أشرف رمضان يكتب: أبي.. لا يموت

أشرف رمضان
أشرف رمضان

في صبيحة يوم الجمعة 15 أغسطس 2015، عشتُ أصعب لحظاتي، كل لحظة كادت أن تفتك بعقلي وتدمي قلبي، أصعب لحظة عندما تُبصر ألم من تحب ولا تعرف كيف تتصرف؟، كيف تتحرك؟، إلى منْ تلجأ؟، أصعبُ اللحظات عندما ترى من تحب يرفض الحياة، يريد الخروج بأمان إلى رب راضٍ غير غضبان.

في هذا اليوم، شعرت بغدر الزمن، عقلي يأبى التصديق، أحاول الهروب من مصير محتوم، أريد أن أتوقف عن التفكير فيما هو آت.. في التاسعة صباحًا اشتد الألم على أبي، بعد ليلة قاسية بين الوجع والغيبوبة.. خرج والدي عن الوعي، أسرعت به إلى الطبيب المعالج، فنصحنا أن نُدخله إلى أقرب مستشفى فورًا.

كنت أعرف جيدًا حالة والدي، لكني تعايشت معها، مؤمنًا بقضاء الله وقدره، أدخلت والدي أقرب مستشفى، وسرعان ما تعامل الأطباء مع حالته، كنت أعرف أنه يكره المستشفيات، لكنه في عالم آخر، لا يدري أين هو؟، اقترب مني طبيب يُطيب خاطري، في هذه اللحظة استعاد والدي ذاكرته وهو يردد جملة واحدة: «ودوني البيت».

كنت في حيرة من أمري هل أستجيب لطلبه؟، أم أحافظ على بقائه في المستشفى؟، هنّا تدخل أبناء عمومتي وأصروا على نقله من المستشفى، وهو ما نصحني به الطبيب أيضًا، استجبت وفي طريقنا إلى المنزل، وضع أبي رأسه على كتفي، وهو يتمتم بكلمات لم أفهمها، كان يحمل همي حتى في لحظاته الأخيرة، أمسك بيد عمي الجالس إلى يساره مرددًا: «وصيتك أشرف متسيبوش»، ودخل في غيبوبة مرة أخرى.

وصلنا إلى المنزل في السابعة مساءً، البيت مزدحم بالأقارب، أدخلت أبي إلى غرفته، جلست إلى جواره ورأسه على يدي، اقتربت منه: «أجيب لك أكل يا حاج؟»، لم يجبني، كررت سؤالي ومع كل مرة قلبي ينتفض، وتتسارع دقاته، كأنه سيخرج من مكانه.

ما هي إلا دقائق معدودات، ودخل علينا رجلاً، لا أعرفه، نظرت في وجهه ولم أسأله من أنت؟، اقترب من والدي الفاقد للوعي، وضع يده على رأسه: «عارف أنا مين يا حاج رمضان؟»، ليرد عليه أبي الذي عاد للتو من غيبوبته: «طبعًا عارفك.. عامل إيه يا حاج حسن؟».

تعجبت من هول ما رأيت، لكن لا مجال للأسئلة، جلس «الحاج حسن» إلى يمين والدي وهو يردد: «لا إله إلا الله»، وبدأ أبي يردد وراءه، وظل هكذا نحو 5 دقائق، لا أريد أن أقطع ذكرهما لله.
أمسك «الحاج حسن» يدي: «اجلس هنا ولا تترك أباك وردد معه الشهادتين»، تمالكت نفسي، وفعلت ما قاله، وقطعت الترديد بسؤال: «أجيب لك زبادي يا حاج؟»، هز رأسه موافقًا، أحضرت كوبًا من الزبادي، وبدأت في إطعامه، استجاب لأول ملعقة ثم الثانية ثم الثالثة، ولم يستجب للرابعة ابتسم في وجهي فابتسمت وقُلت: «لا إله إلا الله» رددها ورائي ثم أغمض عيناه.

مات أبي، الذي كان بالليل أنيسي، وفي النهار سكينتي، ماتت النعمة الكبرى في حياتي، حملته إلى مثواه الأخير، وفي كل التفاصيل كنت متمالكًا متماسكًا، حتى رجعت إلى سريره، وبمجرد أن اشتممت رائحته تسارعت الدموع كبحرٍ جارٍ، بكيت كبكاء الأطفال في المهد، وشعرت أنني وصلت إلى اللحد، رائحة موت أبي لازالت عالقة في ذاكرتي، وكأن الليالي الموحشة المليئة بالبكاء لا تفي بالغرض.

أمات أبوك؟
ضلال.. أنا لا يموت أبي
ففي البيت منه..
روائح رب وذكرى نبي
هنا ركنه.. تلك أشياؤه