يوميات الأخبار

عشر سنوات على الثلاثين من يونيو

محمد بركات
محمد بركات

الآن.. وبعد عشر سنوات على الثلاثين من يونيو ٢٠١٣، نحاول إلقاء نظرة فاحصة عبر بوابة الزمن على ما جرى وما كان فى هذه اللحظات الفارقة من تاريخنا.

عشر سنوات مرت على ذلك الحدث الجلل الذى هز المنطقة والعالم فى الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ وأحدث بمصر والعالم العربى والشرق الأوسط كله مجموعة من المتغيرات الجسيمة، التى أطاحت بالعديد من الأوهام والمزاعم التى ظن أصحابها أنها صلبة ثابتة قوية ـ وباقية ـ فإذا بها تتهاوى وتندثر أمام الزحف الشعبى الهائل وغير المسبوق لجموع الأمة المصرية، التى خرجت كلها فى ثورة شعبية عارمة، ومشهد غير مألوف ولا مُتوقع وغير مُصدق من هؤلاء الذين توهموا أنهم ملكوا مصر وشعبها إلى الأبد، وإذا بأوهامهم تتطاير فى الهواء تذروها رياح الثورة الشعبية العاصفة والعاتية.

وفى تلك اللحظة الفارقة من عمر الزمن.. فى اليوم الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣ كانت جموع المصريين تعلن للعالم كله رفضها القاطع لاستمرار الواقع المر والبائس الذى فرضته عليها جماعة الإفك والضلال، بعد أن سيطرت على الحكم وقبضت على السلطة طوال عام أسود أغبر،...، وكانت الجموع تُعلن على الملأ وتؤكد للعالم كله إصرارها على الخلاص من هذه الطُّغمة، وإنقاذ مصر ممن اختطفوها فى غفوة من الزمن.

نظرة خاطفة

والآن وبعد عشر سنوات على ما جرى، وكان فى الثلاثين من يونيو، سنحاول إلقاء نظرة خاطفة عبر بوابة الزمن، فى إطلالة سريعة على مجريات الأحداث التى جرت وقائعها فى تلك اللحظات الفارقة من تاريخ أمتنا ومسيرة شعبنا الوطنية.

وفى هذه الإطلالة، أجدنى متوقفاً أمام ما دونته عن ذلك الحدث الجلل، فى دفتر الأحوال المتضمن لانطباعاتى الحية والتلقائية عن أحداث ووقائع ذلك اليوم المشهود فى حينه، حيث سجلت كتابة بكل الصراحة والوضوح.. «إنى لا أستطيع مهما حاولت أن أصف بالكلمات والجمل، روعة الإحساس بمشاعر الفرح والسعادة الفائقة، التى انتابتنى مع كل المصريين أو غالبيتهم الكاسحة على الأقل، والتى استولت على جماع مشاعرى مساء الأحد الثلاثين من يونيو ٢٠١٣، وأنا أعيش وأشارك مع الكل معجزة الخروج الكبير وغير المسبوق فى تاريخ الشعوب والدول.

وفى الحقيقة، لقد كان ما شاهدته ولامسته فى هذه اللحظات الفارقة، من ذوبان المكونات والملامح الخاصة والصفات الشخصية المميزة لكل مواطن فرد، وامتزاجها فى مكون واحد، وملامح عامة ومشتركة لجميع الناس المكونين للكتلة البشرية المصيرية الهائلة، التى خرجت من كل فج عميق على أرض مصر، زاحفة ومحتشدة فى كل الشوارع والميادين بطول البلاد وعرضها، معلنة عن نفسها أنها الشعب صاحب الشرعية ومصدر كل السُّلطات.

ومؤكدة رغبتها وقرارها فى التغيير ووضع نهاية لهذه الطُّغمة، ولهذا النظام الحاكم التابع والمعبِّر عن الجماعة، بعد أن فشل فشلاً ذريعاً فى إدارة الدولة وصيانتها وحفظها،..، ليس هذا فقط، بل فشل أيضاً فى تحقيق أو إنجاز أى خطوات إيجابية لصالح الوطن والمواطنين،..، ولم يحترم الدستور ولا القانون، ولم يرعِ مصالح الشعب، ولم يحافظ على أمن الوطن وسلامة أراضيه،..، بل وحنث بالقَّسَم الذى أقسم فيه بالله العظيم أنه سيلتزم بكل هذا وسيحترمه، بل وأكثر من ذلك، حيث وضح دون شك أنه لم يكن ينوى أن يفعل ذلك على الإطلاق.

معجزة كاملة

وإذا ما حاولت تفسير هذه المشاعر التى تملكتنى فى هذه اللحظات الفارقة الآن، وبعد عشر سنوات من وقوعها، أقول إن ذلك يعود فى الأساس لكون ما عايشناه خلالها كان وبحق معجزة بكل المقاييس، وبكل المعانى التى تعنيها هذه الكلمة، وبكل المواصفات التى تدل عليها،..، وأن هذه المعجزة وقعت أمامنا وحولنا ولنا، فى وقت وفى زمن هو بالتأكيد ليس زمن المعجزات، وفى ظل ظروف ومناخ كان خالياً تماماً من أى بصيص ضوء يشير إليها أو يُبشِّر بها من قريب أو بعيد.

وأزيد على ذلك بالقول، بأن أحداً لا يستطيع أن يدعى توقعه المسبق لهذا الذى جرى،..، فما حدث وما جرى فاق كل التوقعات، وتجاوز كل خيال، مهما كان هذا الخيال جامحاً أو متعدياً فى انطلاقه وشطحاته كل دوائر ومساحات الواقع المرئى والملموس، ومهما كان مُحلقاً فى آفاق واسعة وغير محدودة.
فهل كان أحد يمكن أن يتصور هذا الخروج الأسطورى والمعجز لشعب بأكمله، أو على الأقل لغالبيته العظمى؟!،..، أو يمكن أن يتصور وصول هذا الخروج إلى ما يزيد عن الثلاثين مليوناً من البشر، طبقاً لتقديرات كل الجهات العالمية التى راقبت ورصدت وسجلت؟!

وإذا كان ذلك سؤالاً، وهو كذلك بالفعل، فإن الإجابة الواضحة والصادقة الوحيدة على هذا السؤال هى بالنفى،..، أى أن أحداً على الإطلاق لم يكن يتصور أن يرى هذا الذى حدث وعلى الصورة التى حدث بها.

٣٠ مليون مواطن

وللحقيقة، لقد كانت أكثر التوقعات تفاؤلاً تقول بأنه يمكن أن يحدث خروج يصل إلى حدود المليون فى ميادين القاهرة والإسكندرية، بالإضافة إلى مليون آخر أو أكثر قليلاً فى المحافظات،..، وبذلك يمكن أن يصل الرقم إلى حدود المليونين أو ما يزيد قليلاً، أما أن يصل إلى ثلاثة ملايين، فإن ذلك سيكون شيئاً مذكوراً،..، ولكن ما حدث كان بالتأكيد غير ذلك، حيث تضاعفت هذه الأرقام بما يزيد عن عشرة أضعاف على الأقل،..، وكان الفاعل هو الشعب الذى أذهل الجميع، وجاء بما لم يتوقعه أحد على الإطلاق.

نعم كانت المفاجأة هى الشعب، وكانت المعجزة هى ما فعله هذا الشعب، وما قام به فى لحظة مصيرية كان هو يدركها دون غيره، بحسه التلقائى الفطرى لمدى وحجم الأخطار الحقيقية المحيطة به والمتربصة له وللدولة المصرية.

كان الشعب مقدراً بحكمته المتراكمة عبر ملايين السنين بأن هذه اللحظة هى لحظة الحسم والفعل، وأنه لابد أن يخرج الآن ليقول كلمته ويحدد مساره ومصيره، فى ذات الوقت الذى تصور فيه الكل ـ وخاصة هؤلاء الذين ظنوا أنهم تمكنوا منه ـ وأفلحوا فى الإمساك برقبته، أنه قد سَكَنَ واستسلم وأسلس لهم قيادته.

مِن هنا فاجأت هبة الشعب الجميع، ووقف الكل ذهولاً وهم يرون ذلك الحضور اليقظ، وتلك الحيوية الدافقة للشعب المصرى، الذى انتفض بكامل وعيه الإنسانى العميق بأهمية اللحظة التاريخية، وما تمثله من تأثير بالغ على مصير الوطن، وأثر مؤكد على استمرار وجوده فى دائرة الحضارة والتنوير، وما سيكون لذلك كله من نتائج واضحة على سعيه لبناء دولته الديمقراطية المدنية الحديثة، القائمة على المساواة وسيادة القانون، والمحققة لطموحاته وآماله فى الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية التى يحلم بها ويسعى إليها.

إرادة شعب

وإذا جاز لى أن أسترجع الآن تلك اللحظة الفارقة فى عمر الزمن منذ عشر سنوات، فى محاولة للإمساك بها وبكل ما احتوته من مشاعر فخر فياضة غمرتنا جميعاً، ونحن نشاهد ونلمس ونشارك مع الجموع، فى رسم ملامح المعجزة للخروج الكبير والهائل وغير المسبوق، فلابد أن أعترف بأنه مهما قِيل عن الجحافل والملايين التى هبت من كل مكان على أرض مصر، وخرجت إلى الميادين والشوارع بالقاهرة والإسكندرية وجميع المدن والقرى والمحافظات، لتؤكد إرادتها وتمارس حقها المشروع فى إنقاذ دولتها وتحديد مصيرها والحفاظ على هويتها، فيبقى القول ناقصاً فى تعبيره عن عظمة ما وقع، وعاجزاً عن الإحاطة الكاملة بحقيقته.

وفى هذا الإطار وأمام كل هذا الذى جرى، وبالصورة المذهلة التى وقعت بها المعجزة على مرأى ومسمع من العالم كله، أصبح واجباً أن أقول بكل وضوح، إن ما جرى فى هذا اليوم المشهود كان وبحق تعبيراً صحيحاً واضحاً ومباشراً عن إرادة الأمة المصرية، ونقطة ارتكاز مهمة وفاصلة فى المسيرة الوطنية للشعب المصرى العظيم.

وعلينا أن نعى وندرك جميعاً أن هذا الخروج الكبير والمذهل لجموع الشعب فى الثلاثين من يونيو، كان هو الجسر للعبور التلقائى والطبيعى، بل وأيضاً الضرورى للقرارات المصيرية التى أعلنتها رموز الشعب وجموع قواه الوطنية، فى الثالث من يوليو ٢٠١٣،..، أى أن هذه القرارات المصيرية كانت الترجمة الصادقة والتعبير الأمين عن إرادة الشعب المعلنة فى الثلاثين من يونيو.

جيش الشعب

والأكثر لفتاً للإنتباه واستحقاقاً للتسجيل والاهتمام الواعى فى كل ما جرى وكان فى ذلك اليوم المشهود فى الثلاثين من يونيو ٢٠١٣، هو الانحياز الطبيعى والتلقائى لجيش مصر البطل إلى جموع الشعب وثورته العظيمة.

وفى الحقيقة وعلى أرض الواقع لقد كان هذا الانحياز هو الفعل والتصرف التلقائى والمتوقع من جيش الشعب فى ظل الانتماء الدائم والكامل من الجيش لشعبه بوصفه جزءاً لا ينفصل عنه على الإطلاق.