..عقب سياسة الانفتاح الاقتصادى فى منتصف السبعينيات وموجة الهجرات المصرية إلى دول الخليج البترولية ، حدث تحول طبقى مفاجئ فى المجتمع المصرى وظهر مايمكن أن يطلق عليه شرائح الأغنياء الجدد .
بدأت هذه الشرائح الغنية الجديدة تدخل فى حالة من التنافس الاستهلاكى المحموم لشراء كل ماهو غالى الثمن حتى لو بلا قيمة وتطارد بنهم السلع المستوردة من الخارج أى سلع ..متعالية على كل ماهو صنع فى مصر ، كان هذا السباق الاستهلاكى غرضه الرئيسى أن تشعر هذه الشرائح بتميزها الطبقى عن بقية طبقات المجتمع نتيجة للثروات التى جمعتها فى مدة قصيرة وبطرق غير واضحة المعالم
أثناء هذه الفترة السائلة من تاريخ المجتمع المصرى بدأت تنتشر قصة غريبة ــ رصدتها السينما المصرية فى بعض أفلامها ــ بأن هذه الشرائح الغنية تتنافس لشراء الكتب ذات التجليد الفاخر من المكتبات الشهيرة أوشراء المكتبات الخاصة من بائعى الكتب المعروفين ولايهم هنا محتوى الكتب أو ما بداخل صفحاتها من علوم المعرفة المتنوعة ما يهم فقط الشكل الخارجى الفخم لهذه المجلدات .
توالت عمليات الشراء بكثافة وشحن المجلدات الفاخرة إلى شقق وفيلات وقصور الشرائح الجديدة بل ظهر فى هذا الوقت نوع من سماسرة التثقيف وظيفتهم انتقاء أسماء رنانة للكتب والمجلدات المشتراة ثم إعطاء المشترى "كبسولة" معرفية بسيطة تناسب عقلية السيد أو السيدة من الشرائح الجديدة، فى النهاية تتحول الكتب ذات التجليد الفاخر إلى ديكور صامت يحتل أرفف مكتبات صنعت من أجود أنواع الأخشاب المستوردة .
يختم سمسار التثقيف عمله بتحفيظ السيد والسيدة من الأغنياء الجدد بعض الأسماء الرنانة للكتب والمؤلفين المتراصة أعمالهم على الأرفف الخشبية المستوردة ويناولهم "الكبسولة " المعرفية ليبتلعوها على مضض منهم. غرض هذا التحفيظ والابتلاع بضيق أن يتفاخر السادة الجدد أمام منافسيهم من السادة الآخرين أو ضيوفهم المساكين بمدى علمهم الغزير وثقافتهم الواسعة ويشرحون فى حكمة وتعالى أمام المنافسين والضيوف أسباب تفضيلهم للعقاد عن طه حسين أو أن حبهم الشديد للتاريخ دفعهم لاقتناء مجلدات البداية والنهاية لابن كثير إلى موسوعة مصر القديمة لسليم حسن وبين المجلدات المتراصة لامانع من بعض روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس التى كانت فاتحة الطريق لهم أثناء فترات الصبا إلى عالم القراءة والمعرفة .
رغم امتلاك السادة الجدد المال والنفوذ وأفخر الثياب والطعام القادم بالطائرات من الخارج وفى بعض الأحيان يمتلكون السلطة إلا أنهم يصرون على التفاخر بالثقافة والمعرفة أو طلاء أنفسهم بطلاء زائف من الحضارة .
لا يبدو الأمر غريبًا لأن السادة الجدد فى النهاية بشر والإنسان مهما امتلك من وسائل القوة والنفوذ إلا أنه يمتلك أيضًا عقلا ويشعر بالتفوق والتميز الحقيفى عندما يسود عقله وتسيطر أفكاره على الآخرين حتى لو بأسلوب مخادع على طريقة السادة الجدد ومكتباتهم الديكورية .
من الواضح أن سادة انفتاح السبعينيات أصبحوا حالة عالمية وسماسرة التثقيف تركوا خلفهم "أكشاكهم " الصغيرة التى كانوا يديرون منها أعمالهم المتواضعة من شراء المجلدات الفخمة وتجهيز الأسماء الرنانة و"الكبسولات" المعرفية وتحولوا إلى مؤسسات ضخمة ذات ميزانيات مليارية لأن السوق اتسع وباب الزيف مفتوح على مصراعيه والسادة الجدد لم يعودوا بشرًا بل دول فاحشة الثراء وجماعات غامضة ونافذة وكلهم نزلوا إلى هذا السوق السوداء المريبة ليس لشراء مجلدات فخمة وتصميم مكتبات ديكورية على طريقة السبعينيات الانفتاحية بل يريدون شراء حضارات إنسانية بكاملها ثم يتولى السماسرة المدعومون بمليارات الدولارات تفكيك ونقل هذه الحضارات إلى بلد السيد المشترى .
فى حالة صعوبة عملية الشراء مع إلحاح المشترى وأمام إغراء المليارات الدولارية المتدفقة يمكن أن يجهز السماسرة ميليشيات من المتثاقفين المتخصصين فى تزييف الحقائق وميليشيات أخرى تتولى القيام بالبروباجندا والدعاية السوداء من أجل إقناع المتابعين أن عديمى الحضارة هم أصحاب الحضارة المقرصن عليها وأصحاب الحضارة الأصليين دخلاء عليها !.
لا يشترط هنا أن تنقل الحضارة المقرصن عليها كقطعة واحدة فميليشيات السماسرة وأتباعهم لهم اساليب متعددة على رأسها استلاب هذه الحضارات عن طريق تفكيكها أى تجزيئها الى تاريخ، ثقافة، فنون ،آداب،تراث وكل ماتشتمل عليه أى حضارة عريقة من عناصر حتى الأسماء التى أسهمت فى صناعتها سواء رحلت أو مازالت تعيش بيننا ثم تبدأ عمليات السلب والنهب المنظم لكل عنصر على حدة بالإدعاء والدعاية السوداء والتزييف المستمر وبشراء ذمم بعض ضعاف النفوس من المنتسبين للحضارة المقرصن عليها ووظيفة ضعاف النفوس تأكيد زيف ميليشيات السماسرة سارقى الحضارات.
نعود هنا لنفس الاستفسار لماذا تعمل هذه السوق السوداء الدولية بكامل طاقتها ويتهافت عليها المشترون فاحشو الثراء وتقتنص ميليشيات السماسرة فى دهاليزها الملتوية صفقات مشبوهة بمليارات الدولارات ،هل يبحث فاحشو الثراء عن التفاخر والتمايز بالحضارة المسروقة كما كان يفعل سادة انفتاح السبعينيات؟ فى جزء من الإجابة هو نفس البحث عن التفاخر والتمايز الذى يبحث عنه الإنسان العادى ولكنه هذه المرة بين دول متنافسة على لعب أدوار على الساحة الدولية .
هذه ليست كل الإجابة فالأمر هنا يتعلق بالسياسة وحسابات القوة والنفوذ والتأثير على الساحة الدولية فهذه الحسابات لا يصنعها المال فقط مهما بلغ حجم الأموال التى تمتلكها الدول فاحشة الثراء أو الجماعات المنظمة ذات الأهداف بعيدة المدى ولكن إلى وقت قريب لم تكن نفس الدول وهذه الجماعات تذهب إلى هذه السوق أو لم تنشئه بعد وتجيش ميليشيات السماسرة من أجل الاستيلاء على البضاعة الثمينة.
بالنسبة لفاحشى الثراء فطوال سنوات ظلت النخب الحاكمة تستخدم سلاح المال لتحقيق معادلة حسابات القوة والنفوذ والتأثير على الساحة الدولية ولكن دائما ما كانت المعادلة ناقصة ولا تحقق المطلوب منها بقوة المال وإلى هذا الوقت القريب لم تحاول هذه النخب تبديل عناصر المعادلة حتى تغيرت النخب وبدأت تبحث عما يحرك المعادلة إلى آفاق أكثر اتساعًا على المستوى الدولى، إنها نفس لحظة الاكتشاف التى وصل إليها سادة انفتاح السبعينيات لكن مع الفارق بين محدودية غرض الانفتاحيين واتساع دولى تبحث عنه النخب الحاكمة الجديدة
وجد الانفتاحيون غايتهم فى بعض المجلدات فاخرة التجليد ومكتبات ديكورية صنعت من أجود أنواع الأخشاب المستوردة أما النخب الجديدة فوجدت غايتها فى كلمة سحرية هى الحضارة فهذه الحضارة هى ماستعطى لحسابات المعادلة القوة المطلوبة وتحقق للنخب أحلامها فى تحقيق قوة ونفوذ وتأثير حقيقى على الساحة الدولية ولكن بقى شيء واحد أنها لا تمتلك هذه الحضارة التى لاتظهر فى يوم وليلة ومن هنا عادت تلك النخب الحاكمة إلى سلاحها الوحيد المال لكى تشترى الحضارة المفقودة ومن هنا ظهرت السوق السوداء وتكونت ميليشيات سلب ونهب الحضارات لتحقق رغبات النخب الجديدة .
ما سرع بتنشيط هذه السوق العجيبة وأطلق يد الميليشيات هو ظهور وسائط السوشيال ميديا التى تدار على صفحاتها ومنصاتها حروب الدعاية المباشرة أو بالوكالة وهذه الوسائط مهما تم التحكم فى حركتها إلا أنها فى النهاية بيد ملايين من البشر
استشعرت النخب الجديدة أن مواطنيها لا يمتلكون ما يتميزون به أمام حالة الفخر الحضارى التى يمتلكها الآخرون وكان يمكن للنخب أن تتجاوز هذا الصراع لأنه يدور فى عالم افتراضى ولكن أمام سيطرة وسائط السوشيال ميديا على المجتمع البشرى انتهى الفصل بين الأفتراضى والواقعى وأصبحت هذه النخب تدرك أن هزيمة مواطنيها فى المعركة الافتراضية يعنى أنها فى العالم الواقعى ستهتز سلطتها سياسيًا وتفقد سطوتها على المواطنين الغاضبين وأكثرهم من الشباب .
هذه الأزمة لم تواجه اباء النخب الجديدة بسبب محدودية آلة الدعاية التى كان يمكن التحكم فيها وقت الاباء لكن التطور التكنولوجى عن طريق وسائط السوشيال ميديا أعطى لكل مواطن آلة الدعاية الخاصة به فكان لابد من شراء أو الاستيلاء على أى حضارة ويفضل أن تكون حضارة فى نفس المحيط الجغرافى من أجل الحفاظ على السلطة السياسية عن طريق إرضاء ونصرة المواطنين الغاضبين ولو بحضارة مسروقة .
عندما نذهب إلى الجماعات الغامضة والنافذة ونراقب حركتها فى هذا السوق وتعاملاتها مع ميليشيات السلب والنهب الحضارى سنجد أن هذه الجماعات ترتبط بالدول الكبرى من ناحية التواجد ولكنها على خلاف ثقافى وسياسى مع مجتمعاتها فى هذه الدول مستشعرة أنها لا تعامل على قدر المساواة ببقية مكونات مجتمعاتها مما يهدد هذه الدول بحالة من الاضطراب الاجتماعى الذى قد يصل إلى درجة الانفجار .
ابتكرت السلطة الحاكمة فى هذه الدول حلا يمنع هذا الانفجار القادم وهو تحريك هذه الجماعات للخارج بواقع أنهم أصحاب حضارة عظيمة ولكنها سلبت منهم على يد آخرين ويجب أن يوجهوا غضبهم لهذا الآخر وليس إلى المجتمعات التى يعيشون على أرضها بل أن كل أجهزة هذه الدول الكبرى من سياسية واستخبارية ودعائية تساعد هذه الجماعات وتوفر لها الميليشيات من أجل غرض أساسى وهو إبعاد هذا الانفجار عن مجتمعاتها المضطربة حتى لوكان هذا الإبعاد على حساب حضارات الشعوب الأخرى .
لم يعد مستغربًا أن يكون هناك تحالف بين فاحشى الثراء والجماعات الغامضة النافذة لأن الغرض واحد وهو نهب وسلب حضارات الشعوب وأمام هذا النهم الشديد داخل هذا السوق القائم على عمليات سرقة الحضارات والذى بدأ يجذب قوى أخرى تبحث عن نفس الغرض ولكن لأسباب مختلفة فقد يأتى يوم ويتخلص السماسرة وميليشيات السلب من السوق السرية السوداء وبلا خجل أو خوف يطلقون حملات دعائية مباشرة تعلن عن وجود حضارات للبيع والوسطاء يمتنعون.