ولادة متعثرة قصة قصيرة للكاتب عبد النبي النديم

الكاتب عبد النبي النديم
الكاتب عبد النبي النديم

أتابع بشغف حركة أشجار الكافور المسرعة، وأغصانه التي تحجب أشعة الشمس في السماء، صانعة نفق عملاق من الخضرة المبهجة، تتخلله بعض خيوط أشعة الشمس التي هربت مستغلة الفراغات بين أغصانها.
تزيد سرعة أشجار الكافور كلما زادت سرعة الأتوبيس في عكس الإتجاة، حرصت على الجلوس بجوار الشباك خلال رحلتي الأولى إلى مدينة شبين الكوم لتقديم أوراقي بالجامعة، أحفظ معالم الطريق وأسماء القرى والمحطات، التي أوصاني والدي بها وهو يعطيني مصروفات تقديم الأوراق وأجرة الأتوبيس وشراء بعض السندوتشات في حال تأخري في الجامعة..
أتابع أسراب البشر على جانبي الطريق، يسحبون مواشيهم إلى الغيطان الممتدة خلف أشجار الكافور، أتأمل طويلا هذه الصورة المتحركة أمامي، ليست هذه أول مرة أكون بداخل هذه الصورة الخلابة، أفتش هناك في أعماق ذاكرتي عنها، الأشجار الباسقة بكل تفاصيلها وتهاديها مع نسمات الصباح العليلة، تغطيها طبقة خفيفة من الضباب، تخترقة أشعة الشمس، إنها ليست بجديدة على ذاكرتي، فقد كنت أحد تفاصيلها في يوم ما.. 

أغوص بداخل ذاكرتي أفتش فيها عن هذا المكان الذي آثار بداخلي بدايات الوعي والتجاوب والتحصيل وبدء التسجيل على شريط الحياة.
ارتسمت هذه الأشجار الباسقة المتسارعة داخل عقلي، بدأ معها شريط ذاكرتي ولحظة ميلادي في عالم التأمل والتفكير، فلا أتذكر قبلها صورة.. ولم تدون قبلها ذاكرتي موقفاً.. لطالما بحثت عن هذه الصورة مع تسارع تسجيل الذكريات، وتبقى هذه الصورة معلقة على بداية الذاكرة. بإرادتي دخلت في أحشائها، وأنا أستقل الأتوبيس لأول مرة في طريقي إلي الجامعة بمدينة شبين الكوم، تاركا خلفي المرحلة الأساسية من التعليم.. 

لم يطرأ أي تعديل علي هذه اللوحة الفنية الرائعة للنفق الذي رسمته الأشجار بأغصانها، تتخلله أشعة الشمس الزاهية مع بقايا ضباب الفجر بين الأوراق وكأنها تتنفسه، أشجار الكافور بارتفاعها الشاهق وجذوعها الضخمة، هي كما هي.. إلتقطتها مخيلتي ودونها عقلي مع بداية ذاكرتي.
داخل أحشاء الأتوبيس، الذي يزمجر محركه ويشق أغصان أشجار الكافور المتدلية علي الطريق داخل النفق، تسارع ذاكرتي ويساعدني تفكيري بالغوص إلي الماضي عبر أعوام عديدة مرت، وكأنها بالأمس، وأنا محشور بباطن هذه الصورة.

تسارع الصورة بالعودة بمخيلتي كلما سارع الأتوبيس بحركته داخل نفق الأغصان التي تتخلله أشعة الشمس التي تخطف الأبصار، ففي هذه البقعة الساحرة وبين أحضان هذه الأغصان كانت اللحظات الأولي لميلاد ذاكرتي، وأنا أتوسط خالاتي ووالدتي في سيارة نصف نقل «صندوق» قام صاحبها بتغطية نصفها الخلفي بالقماش الغليظ على قوائم معدنية، واضعا أريكتين على الجانبين بداخل الصندوق، لتتحول من سيارة نقل لسيارة أجرة، ونحن في طريقنا من قريتنا الفرعونية إلي المستشفي التعليمي بشبين الكوم، بعد أن بات وضع خالتي التي تصغر والدتي وهى في حالة المخاض صعبا، نتيجة الوضع الغير طبيعي للجنين في الرحم، وصارت الولادة متعسرة، نصحتهم الداية بضرورة الذهاب إلي المستشفي لتتجنب مخاطر الولادة، التي قد تحتاج إلي عملية قيصيرية.

أتشبث بتلابيب أمي لمرافقتها كعادتي، لا أتركها في مشاويرها، تحملني خالتي الأخري، تجنبا للتأخير ويسوء وضع خالتي الأخرى في مخاضها، السيارة المتهورة تشق طريقها وتنهش في الأسفلت، وأشجار الكافور الشاهقة الإرتفاع تسد عنان السماء كأنها مردة لم تستحي أن تظهر نهارا، وتشابكت أغصانها من أعلي علي جابني الطريق، تتخللها خيوط النور، فحفرت الصورة على شريط ذاكرتي بعين بريئة، وطبعت داخل مخيلتي، فلا أتذكر شيئا قبلها سوي أني طفل ينطق بكلمات متهتهة بلهاء تثير ضحكات خالاتي، والتي علي أثرها تنهال علي خدي قبلاتهن والأماني بحفظي من كل سوء وحسد، وأن ترزق أختهن بمثلي أو بعروسة تكون لي.

أفيق من رسم الصورة علي شريط ذاكرتي، نقطة انطلاق مرحلة الوعي، علي صراخ خالتي التي جاءها المخاض، أنظر إليها بصمت وتعجب من صراخها دون خالاتي ووالدتي وكذلك بطنها المنتفخة، والآلام تعتصرها وتتشبث بشدة بوالدتي وخالاتي وتطلب منهن النجدة.

أتعجب أمر خالتي المتألمة، وأمر من يحيطون بها من اللامبالاة إلى حد كبير لصراخاتها المتتالية، وكأني الأمر عادي عندهن، ولا توجد من تصرخ وتطلب النجدة مثلها منهن، وينصرفن عنها للهو معي والضحك علي كلماتي المتهته، وكلما زادت صراخات خالتي ازداد تشبثي بأمي، التي وجدت علي وجهي الإضطراب، فحاولت إبعادي عن هذا الجو المشحون بالصراخ، تسألني إحنا راحين فين؟!
بتلقائية الطفولة.. أرد مسرعا راحين سنتريس - البلدة المجاورة لقريتنا الفرعونية والتي يوجد بها المقاهي والمحلات وغالبا ما يقضي شباب القرية الأعياد والموالد بها- وكانت ثروات خيالي وخيال أقراني من الأطفال أنها بلدة بنوها فوق السحاب، ويسافرون إليها بالطائرات والسيارات - علي الرغم من أن القرية لا تتجاوز العشرين دقيقة في الذهاب إليها راكبا الحمار- وإذا ذهبنا إليها فسوف نكون عند نهاية الدنيا، وكثيرا ما أعددنا الخطة للرحيل إليها في الأعياد ، إلا أن البعض يرهبه المغامرة لأطفال لم يتجاوزوا الرابعة من أعمارهم والعقاب الذي يمكن أن يكون نتيجة الهروب إلى سنتريس، وكذلك التحذيرات الشديدة من والدي ووالدتي بعدم التحدث إلى الغرباء لأنهم يخطفون الأطفال.

تعلو ضحكات خالاتي، وأستقبل وابلا جديدا من القبلات علي وجهي، الأمر الذي أوحي إلي بصحة إجابتي بأننا في الطريق إلى سنتريس، خاب ظني عندما ردت علي والدتي بأننا في طريقنا إلي شبين الكوم، وهي أبعد وأكبر من سنتريس بكثير، وأرد عليها بتلقائية، أليست سنتريس هي آخر الدنيا؟!!

تضمني أمي إليها بشدة مبتسمة، الدنيا دي كبيرة أوي وواسعة أوي، وفي بلاد كثيرة أبعد من شبين الكوم كمان، أنظر إليها صامتا فعقلي ما زال بكرا ولم أفهم شيئا.. أحاول التفكير.. ولكن لم تسعفني ذاكرتي أن هناك أبعد من سنتريس، قررت أن أخذها معلومة جديدة، وأنظر من باب صندوق السيارة الخلفي، ألقي نظرة علي أشجار الكافور المتسارعة في عكس إتجاه السيارة، التي بدأت تهدئ من سرعتها، تركت خالاتي تمسكن بذراع خالتي التي يقولون أنها علي وشك الولادة، أنظر مرة أخري إلي النفق الذي صنعته أشجار الكافور حول الأسفلت، وكأنها تحمي السيارات التي داخل النفق علي الطريق من أشعة الشمس، إلا القليل منها التي ظهرت وكأنها أسياخ حديدية تنفذ من خلالها السيارات..

تصرخ خالتي .. يساندونها لتنزل من السيارة وقد تخضرمت ملابسها بدماء لا أعلم مصدرها، أترك الجميع وأنظر إلي أشجار الكافور التي ارتسمت علامات الحزم علي ملامحه وتهدلت أغصانه لتسارع السيارات المتهورة، والحقول الممتدة من خلفه تحفها المنازل الريفية، تغطي زراعات الحقول هالة من الضباب الخفيف تداعب سنابل القمح الذي إمتد إلي مدي بعيد يرسم خلفية للصورة الجمالية التي صنعتها أشجار الكافور، العصافير تشق سحب الضباب الخفيف التي تمر من خلاله مقتحمة هالاته وكأنها تدافع عن سنابل القمح من هجومه.

إنها نفس الصورة، نفس الملامح التي زينت به لوحتي التي سجلها شريط ذاكرتي، لتعلن ميلاد الوعي والتفكير، عندما طلب مني مدرس التربية الفنية في المرحلة الإعدادية رسم صورة من خيالنا، كانت أول صورة ظهرت أمامي، ولما لا فهي أول وعي لتسجيلاتي علي شريط الذاكرة، طبعت ملامحها وجمعت شتات أركانها، وكونت من أشلائها لوحة فنية لاقت استسحان الجميع، حسبتها من عدم ولكنها كانت الإنطلاقة، أخذت مكانها البارز بحجرة مدير المدرسة، أطلقو عليها إسم «الربيع».. سميتها «ولادة متعثرة» للحظة البداية للإبداع والتفكير والتدوين، دارات معي بدوران الأيام، وتوالت بعدها الصور المشوشة تطبع علي شريط ذاكرتي، ولكن جوانبها باهتة إلا القليل منها..

لم يوقف تسارع شريط الذاكرة، وتسارع أشجار الكافور ومن خلفه القري سوي الاضطراب المفاجئ للأتوبيس المتهور عند عبوره لمطب بالطريق أخرجني من لحظة البداية لإنطلاق حياة.