«زادُه الخيال» قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

الكاتب محمد كمال سالم
الكاتب محمد كمال سالم

بخطواتٍ وئيدةٍ، كأنها لحظاتُ وداعٍ، رحتُ أزرعُ الرصيفَ جيئةً وذهابا، كم من المرات تركتُ خلجاتي هنا عندك! أفراحي، انكساراتي ودموعي، سِرا بيني وبينك, عند الأصيل، عند الغروب، وكثيرا ما شاركتك الطلّ، عقودٌ توالتْ حتى أصبحتُ هرمًا، أنا هنا مازلت معك، هل تذكر؟

يبدو أنه لستُ وحدي الذي أشتاقَ إليك، لا أصدق ما أرى، إنه قائدي (الصاغ بكري)

لا يمكن أن يشتبهَ عليّ، هو شعرّه المصفف في وسامةٍ ورجولةٍ، خطواتُه القويةُ الوثابة, لا تسعني قدماي الواهنتين اللحاق به, أظنُه سيُدهَشُ حينَ يراني, إنُه يهبطُ نحوَ المرسَى النيلي, سأعدو حتي ألحقَ به, ركبَ قاربًا شراعيًا للتنزه, أصيحُ، أنادي عليه كي ينتظرني:

(رائد بكري)

يلتفتُ نحوي, أشرتُ إليه متبسما, أتجه نحوه مسرعا, حجرٌ التصقَ أسفلَ قدمي, حاولتُ أن أتماسكَ, ترنحتُ في الهواء, سقطتُ في الماء, ثقيلٌ ماءُ النيل, لا أستطيعُ أن أرفعَ رأسي من الماء, إني أغرقُ, لابد وأنَّ الصاغَ بكري سيسرعُ لنجدتي كما احتواني وأنا مجندٌ صغيرٌ في وحدتِه المقاتلة, حيث كنتُ أشعرُ بالغربةِ, والألمِ لفراقِ طفلي الصغير, كان صارما في التدريب, حتى إذا فرغنا, صرنا صديقين, وكان لي أخا أكبرَ.

أصبحتُ امتليء بالماء, جحظتْ عيناي, ما عدت أحتملُ ضغطَ الماء, تملكني اليأسُ لابد أني ميتٌ, نطقت الشهادتين, وأسلمتُ روحي لله.

أيادٍ قوية تنتشلني من الماء , أنا نصفُ واعٍ, طرحوني علي وجهي, أفرغوا ما في جوفي من ماء, لكن كانت دهشتي لما أفقتُ!

هذا ليس القارب الذي غرقت عنده, هو بدائي, أظنُه صُنِع من البوصِ والحبال, ما هؤلاء الناس؟! إنهم عرايا إلا من مئزرٍ يسترُ نصفَهم الأسفلَ! مازلت مُلقى علي ظهري, تقدم نحوي رجلٌ مَهيبُ المنظر, كثيفُ الشعرِ واللحيةِ, أمرني زاجرا:

قُم يا رجل، مهمتُنا مُقدَسةٌ, واحترس لنفسِك مرةً أُخرى وحافة القارب, اعتدلتُ قائما, زادت دهشتي لما وجدتني في نفسِ هيأتِهم, وأرتدي مثلَهم,حتى شكل النهرِ مختلف، يسيح عندَ  شاطئيه البعيدين الوارفين بالنخيل والغاب, هل كنتُ غارقًا بين هذه التماسيحِ المفترسة؟! أفراسُ النهرِ العملاقةِ ترعى بكثرةٍ عند الشاطئ!

صوتٌ جهوري يصيحُ: تجمعوا أيها الرجال, الملك (مصرايم ابن حام) يحدثكُم.

_أيها الرجال: تعلمونَ أن وجهتَنا هي جبلُ القمرِ حيثُ ينبعُ هذا النهر, مهمتنا تعبيد وهندسة مجراه,  للحفاظِ على الماء الذي يسيحُ في الأرض ولا ينتفعُ به الناس, إذ علينا أن ننجزَ تلك المهمةَ قبل ظهور النجمِ الأسطع سيريوس الذي يفيضُ النيلُ  عند بذوغِه, سنسيرُ في ونسٍ وعمارٍ حتي نجتازَ الخطَ الذي يستوي عندَه الليلُ والنهار  (خط الاستواء) ثم إذا ما وصلنا أرض الزنج والأحباش كان الطريق خرابا, إلا من قبائل متناحرة بين الغابات.

ثم استطرد بكلماتٍ في صلاة: نسألُ خنومَ وحابي البركةَ والرعايةَ, والعودة بسلام.

أبحرنا أياما وليالي, في أجواء غامضة, كادت الحيرةُ أن تذهبَ بعقلي, هل أنا مِتّ وأعيشُ حياةَ البرزخ؟!

هل انتقلتُ لزمنٍ سالفٍ هكذا بكلِ بساطةٍ؟! صوتُ هدير ماءِ أحدهِم يصيحُ بقوة:

جبلُ القمر, لقد بلغنا جبلَ القمر.

صارت همهماتٌ وتهليلاتٌ بين البحارة, فرحة بالوصول.

جبلٌ شاهقٌ منقوشٌ في زخرفٍ وجمال, كأنه تحفةٌ برونزيةٌ غاليةُ الثمن, ينحدر من أعلى قمتِه شلالُ الماء فيصدرُ هديرا وتراطما شديدا للمياه حتى لم يعدْ أحدٌ منا يسمع زميلَه القريب منه.

أمرَ الملكُ مصرايم أحدَ جنودِه الأقوياء, أن يتسلقَ الجبل, ويستكشفَ من أين ينبعُ الماء.

صعدَ الرجلُ بخفةٍ ورشاقة, لكنه لم يعد!

طالَ انتظاره حتى انتهى اليومُ ولم يعد كشافُ المَلك, في اليوم التالي .. أرسلَ رجلا غيَره, ولم يعد! تكررَ ما حدثَ مع المستكشفِ الأول

في اليوم الثالث, ربطوا المستكشفَ الجديدَ بحبلٍ طويلٍ غليظ, حتى لا يضيعَ مثلَ سابقيه.

ولما استغيبوه جذبوا الحبلَ, حتي بدى الرجل عند حافة الجبل, ولكن,  جحظتْ عيناه على اتساعها, وصاحَ بصوتٍ جهورٍ أسمع الثقلين, رغم هدير الماء العنيف: (جنة الخلد) إنها واللهِ جنةُ الخلد, ثم عادَ واختفى.

هاجَ البحارةُ وماجو, يرددون في زهولٍ: جنة الخلد! وماذا ننتظرُ بعد, وراحوا يتسابقون تسلقَ الجبل, ترددتُ لبرهة, لكن سرعانَ ما أدركتُ أن مصيري أصبحَ مرهونا بمصير هؤلاءِ الرجال, فسارعتُ أشاركهم تسلق جبل القمر,

حجرٌ التصقَ بقدمي, حاولتُ أن أتماسكَ, ترنحتُ في الهواء, سقطتُ في الماء, ثقيلٌ ماءُ النيل, إني أغرقُ, ميتٌ أنا لا محالةَ تلك المرة.

أيادٍ قوية تنتشلني من الماء, أنا نصفُ واعٍ, طرحوني على وجهي, أفرغوا الماء من جوفي, ثم أقاموني, أحدهم يحدثني في حنو:

- ألا تنتبه ياشيخ لموضع قدمِك؟

ـ أنت الرائد بكري, قائدي وصديقي, كنتُ ألهثُ خلفكَ سيدي كي ألحقَ بك.

-عجبا! وهل تعرفُ المرحوم أبي؟!