وجدانيات

لا وقت للاختيار

محمد درويش
محمد درويش

قالت له: لاحظت عليك منذ أن تعارفنا وطوال الاسابيع التى مرت والتقينا خلالها عدة مرات أنك لم تغير أبداً الچاكت ولا البنطلون ولا حتى الحذاء أو ربطة العنق.
ابتسم فى غير دهشة، وعرض عليها اصطحابه إلى منزله وفتح لها الدولاب وأخذ يعد خمسة من الحلل كلها من قماش واحد ولونها موحد وأيضا خمسة قمصان لونها واحد وتساير لون الچاكت والبنطلونات وعددهم أيضا خمسة لا اختلاف بينهم وأراها أيضا خمسة جوارب من نفس المنتج وذات لون موحد هى الاخرى، الشىء الوحيد الذى ليس له قرين هو الحذاء وأخبرها أنه يشترى نفس الموديل بلونه السابق عندما يبلى.

هذا المشهد من فيلم أمريكى رأيته منذ عدة سنوات عن قصة حياة أحد العلماء الأفذاذ وللأسف لا أتذكره، كان تبريره لاقتنائه نفس الأطقم الخمسة المتشابهة انها للعمل طوال الاسبوع ويوما الاجازة هو «تى شيرت» واحد وبنطلون چينز وسويتر لزوم الشتاء وحتى يبدد دهشتها قال لها هل تظنين ان باحثاً مثلى مشغول طوال ساعات اليوم وربما إلى اليوم التالى فى دراسته النظرية وابحاثه العلمية لديه الوقت لكى يقف أمام دولابه الذى مفترض أن يكتظ بالحُلل على تنوع اشكالها وألوانها وزخارفها، أى مضيعة للوقت الذى يجب علينا اقتناصه لنحقق اهدافنا واحلامنا.

دائما ما يلح علىّ هذا المشهد وأنا انتظر صديقا لى تحت منزله للتوجه إلى مشوار اتفقنا عليه مسبقا، هذا الصديق المعروف بأناقته الشديدة والتى تتجاوز حد الخيال لابد من نقاش محتدم معه بعد تأخره عن الموعد بأكثر من نصف ساعة، ولأنه صديق ولم يعد للنقاش معه جدوى أصبحت مضطراً لقبوله على عيبه الذى لا يراه هو عيباً بل إنها من خصائص شخصيته فى اقتناء الحلة المناسبة وما يلزمها من قميص أو كرافتة مرورا بالجورب والحذاء، حتى كما يحكى أن أهل بيته يصيبهم الملل من تكراره اسئلته هل هذا الطاقم مناسب للمشوار الذى يحدده أم ذاك ولا إيه رأيكم فى ده؟!.

وفى النهاية لا يـأخذ بنصيحة أحد ويلبس ما يعجبه ولا يلتفت إلى ما يقوله الناس حتى لو كانوا افراد اسرته.

ويلوح بخاطرى بعض من مقالات عمنا الراحل الروائى الكبير خيرى شلبى وهو يصف شهوره الأولى فى القاهرة وضيق ذات اليد مع حُلة واحدة ليس لديه غيرها وكيف انها من السير فى شوارع القاهرة خاصة فى طقسها الحار صارت «متجلدة» أى انها تشربت عرقه عشرات المرات ولا يملك تنظيفها عند محلات التنظيف والكى بالبخار.

وتراءت لى مشاهد عدة مثل صورة صاحب تويتر وتسلا أغنى رجل فى العالم وملابسه البسيطة وربما المتواضعة وهو يحمل فى يده ما يبقى من الوجبة التى قدمت له فى أحد المطاعم وأتذكر حكاية صديقى الذى لامه ابناؤه الصغار وهو يطلب من العامل تغليف ما تبقى من وجباتهم لاصطحابه معه الى منزله، وكيف حاول اقناعهم انه من حقه لانه دفع الثمن وهى نقود يشقى بها ويعرق من أجلهم.

مشاهد عدة تلحظها فى بنى البشر نساء كانوا أو رجالا، قلة منهم يظهر من بساطتها كم هى انيقة ورائعة، وكثرة منهم ارتدوا وتنوعت ازياؤهم فلا يضيفوا الى الغالى والثمين شيئا على عكس البعض الذى لو ارتدى ابسط الازياء واقلها سعراً الا انه يضيف لها بشخصه ولا تضيف له بثمنها مهما كان باهظاً.
البساطة والقناعة تبددان الحيرة.