«أصفر» قصة قصيرة للكاتبة رانية المهدي 

 رانية المهدي 
رانية المهدي 

 في قريتي كل شيء ينبض بالحياة؛ الأشجار الخضراء، مياه النيل الشفافة التي تعكس لون السماء، وتتلون معه بالزرقة الملائكية المبهجة.

 الزهور الزاهية التي تزين مداخل البيوت، الناس أصحاب بشرة حِنطية هادئة أو سمراء تشبه سمرة الأرض الطيبة.

أما عن النساء فيرتدين الجلاليب شديدة البهجة، ويتبارين في ألوان المناديل التي تزين الرأس.

أحب قريتي، وأحب بهجتها، وانتظر أن يعود الغائب؛ لتكتمل فرحتي بارتداء الفستان الأبيض والطرحة الطويلة.

جدي دائما يقول أننا موعودان لبعضنا البعض من قبل أن تدب فينا الحياة.

ابن عمي.. تربينا سوياً وتعاهدنا على الوفاء، سافر ليكمل دراسته ويتعلم الأسرار، ثم يعود لنتزوج ونكون أسرة جديدة تحب الألوان.

دائما أكتب له في دفتري السري وأحكي كل التفاصيل؛ حتى أشعر أنه معي، وليمر الوقت الثقيل في الغياب.

أحتفظ له أيضًا بقطع من الملابس الملونة، وبعض زهور الربيع ، وعلبة صغيرة بها حفنة من الطين الطيب، وزجاجة صغيرة تحمل قطرات من ماء النيل.

طار قلبي من الفرح عندما علمت بوصول الخطاب الذي يبشر بالعودة، أقيمت الأفراح؛ لاستقبال الغائب الحبيب الذي عاد وفي يده تلك الصفراء البغيضة!

الصفراء في كل شيء؛ بشرتها، ملابسها، شعرها، حتى ضحكتها صفراء كبيضةٍ فاسدةٍ أشم رائحتها من هذا البعد الكبير، تقدم وقدمها لجدي وهو يبتسم ويقول:

_ زوجتي يا جَد.

اختفت الابتسامة من وجه جدي ومن وجه الجميع، أما أنا فلم أتحمل وسقط على الأرض فاقدةً للوعي والأمل؛ حملوني إلى غرفتي لتسيطر الحُمى على جسدي وتأكل منه بلا رحمة، قال لي جدي وهو حزين ألا أستسلم وأستمر في حب الحياة؛ لأنني أستحق الأفضل.مرت بضع ليالٍ وبدأت أتعافى.

يومًا ما كنت في شرفتي شاردةً أحاول أن ألتقط بعض الأمل الحائر، لأجد تلك الصفراء تخرج من الدار عند الفجر، وتحمل في يدها حقيبةً صفراء صغيرة.  لا أعرف لماذا تبعتها وحرصت ألا تراني، رأيتها تذهب إلى التل الكبير وتُخرج من حقيبتها سُلمًا يتمدد فجأة ثم يتمطع ويتحرك. نعم، السُّلم يتحرك بمفرده، إنه يسير بجانبها وكأنه إنسانُ له روح!

كنت أعلم أنها ساحرة، ساحرة شريرة تضمر كل الشر، ابتلعت ريقي واستجمعت قوتي وأخذت أتبعها بحذرٍ حتى توقفا بمكانٍ قرب التل، صعدت درجة واحدة على السَّلم ثم توقفت والسُّلم أخذ يتمدد أكثر فأكثر بخفٍة رهيبة وهى تمسك في يدها الحقيبة الصفراء، حتى وصلا إلى نقطة النهاية في لحظة الشروق تماما.

لا أفهم ما تفعله تلك الساحرة الشمطاء؛ إنها تفتح الحقيبة، إنها تدخله فيها، إنها تسرق شعاع الشمس وتغلق عليه حقيبتها، ثم ينكمش السُّلم لتنزل وتستقر جلستها على الصخرة الضخمة، إنها تخرج فرشاة التلوين وتدسها في الحقيبة، ثم تلون بها خصلات شعرها الباهت ليلمع ويزداد اصفرارًا، وتلون بشرتها لتلمع وتضىء بذلك الوهج المسروق، ثم ترسم شموسًا صغيرة تتحرك وتبتسم لتزين بها الفستان الذي يلتف حولها ويصنع لها خصرا رفيعا.

ينكمش السُّلم فتضعه والفرشاة في الحقيبة، وتعود من حيث جاءت.

منذ ذلك اليوم، غابت الشمس عن قريتي ولم يظهر لها أثر، غابت وغاب معها النور، دارت رأسي بشدة وتساءلت هل ما حدث أمامي حقيقيًا؟ أم أضغاث أحلام؟ لم أستطع السكوت رغم ذلك؛ أخبرت جدي  الذي لم يصدقني طبعًا لأنه يعتقد أن الغيرة تأكل قلبي أو أن عقلي على مشارف الجنون.

ابتلعت أحزاني لكن كنت أراقبها في كل وقت؛ إنها ترسم لوحاتٍ لكل جزء في القرية، و في تلك اللوحات تغير كل شيءٍ للأصفر، كل شيء.. الأرض،السماء، النيل، الأزهار، حتى النساء، والأطفال، والرجال لونتهم جميعاً بالأصفر!!

الغريب أن الجميع سعداء بأشكالهم الجديد، ومع مرور الوقت وتلك السعادة الغريبة.. تحولت تلك اللوحات إلى حقيقة، كل شيء أصبح أصفر، الجميع تلون بهذا اللون، حتى القلوب أصبح لها لون أصفر ، سحرتهم جميعاً بالشعاع المسروق من السماء.

صرخت فيهم أن ينتبهوا، قلت لهم أنها ساحرة، وأنها سرقت شعاع الشمس، وحبست النور وسجنت الألوان.

انفضوا جميعا عني وهم يتهامسون أن الغيرة أكلت قلبي وأفسدت عقلي.

مر الوقت ونسى الجميع الأمر، أما أنا لازلت أصرخ حتى بُح صوتي، أن هذه قريتي، وأن يوما ما كانت هناك ألوان وشمس في السماء، لكن للأسف لم يعد هناك من يسمع أو يفهم.

لأجدها تقترب مني بثقةٍ وشماتةٍ وهى تهمس أن أستسلم ولا داعي للمقاومة، وإلا ثبتت علَيَّ تهمة الجنون، ثم تقول بوقاحة  أن الأصفر يليق بي وأنني أستحقه.

هربت من أمامها، واختبأت في حجرة جدي وأنا أسمع ضحكتها العالية التي هزت أركان الدار، ظللت أرتعش حتى اختفى صوتها.

حملت دفتري السري، وحفنة الطين، وزجاجة الماء؛ لأهرب من خلال السرداب السري الذي لا يعلم بوجوده إلا جدي، والذي تشارك السر معي يوما.

فتحت الباب السرداب لأجد ظلامًا دامسًا وهواء ثقيلاً، كان المكان يضيق كلما تقدمت إلى الأمام، حتى أنني قررت أن أزحف وأزحف ولم أتوقف ثانيةً واحدة. حتى رأيت ذلك اللون الأصفر البعيد الذي يأتي من نهايته؛ غابت روحي للحظاتٍ لأستيقظ بعدها وأنا قرب النهاية، قررت أن أكمل الزحف مهما كانت النتيجة. وعندما وصلت ووقفت على قدمي، نظرت حولي، لأجد تلك الصحراء الصفراء الضخمة التي مازالت تحتفظ في سمائها بجزءٍ من شعاع الشمس المسروق، تنفست وابتسمت وعزمت على العمل.

قبَّلت حفنة الطين الطيب التي أحملها في يدي، ثم ألقيت بها لتغطي كامل الأرض، همست لقطرات الماء الصافي في زجاجتي  ثم سكبته على الأرض؛ فصنعت لي نهرًا طيبًا جديدًا.

فتحت دفتري لتتحرر منه الألوان، وبتلات الأزهار، وحبات القمح لتعود قريتي من جديد. وها أنا أنتظر كل يوم أمام السرداب؛ ربما استيقظ أحدهم وبحث عني.