« آخر أيام الصيفية » قصة قصيرة للكاتب محمد جميز

الكاتب محمد جميز
الكاتب محمد جميز

مشهد النهاية

الثلاثاء 1 نوفمبر 2022

شاطىء مدينة بورسعيد

يأتي العصر ليمسح خوف الشاطئ المهجور، يهمس في أذنيه ببضع كلمات فيختلج صدر الشاطىء وتتطاير حبات الرمال متحررة من قيد الوحدة، تنظر سميرة إلى الرمال المتناثرة وتضحك. تهبط الشمس إلى صفحة مياه البحر تلتمس عناقا أخيرا، كان البحر خاويا، فسخ سكانه عقدهم معه ورحلوا ولا أحد يعلم إلى أين ولوا وجهتهم، احتضنت الشمس عيون البحر وطمأنته بالنصر القادم، صرخ سمير فى الشمس بأن تحزم حقائبها وترحل سريعا ناعتا إياها بالكذب؛ محذرا البحر بأنها من سرقت أمواجه منذ أيام مثلما سرقوا حبيبته منذ سنين، لا تعبأ سميرة بصراخ أخيها ومازالت عيناها تتابع ذرات الرمال المتحررة والتى ترقص طربا على إطار لوحة المياه.

 

 

 

الإثنين 31 أكتوبر 2022

 

مشاهد اليوم الأخير

 

المشهد الأول

 

يجلس سمير على مقهى السعادة بشارع محمد على، يدخن سيجارته العاشرة وتسبقه عيناه إلى جدران المحكمة التى تفترش الجانب الآخر من الشارع، الساعة التاسعة صباحا والشارع يكتظ بالناس، اليوم هو سوق الإثنين ولا أحد يذهب إلى السوق ليبتضع، هل يصدقون حقا بأن غدا هو نهاية العالم، ينتبه فجأة إلى صوت تلفاز المقهى وصوت مذيع نشرة الأخبار، ويكتشف بأنه الزبون الوحيد الجالس، أزاح كرسيه سريعا واندفع إلى داخل المقهى يحمل غضب الدنيا وراح يجهز قهوته السوداء وأخذ يستمع إلى نشرة الأخبار.

 

نيزك ضخم يطرق سماء الأرض مغرب غد وعلى السادة المواطنين التوجه إلى الملاجىء التى أعلنت عنها الحكومة للحماية من أهوال النيزك، انقض سمير على التلفاز وقذف به حائط المقهى وشرع يضربه بقدميه قائلا: مذيع كذاب.أشعل سيجارة أخرى وهدأ قليلا وتذكر مدرسه في المرحلة الثانوية وهو يسرد لهم كيف اختفت الديناصورات من على وجه الأرض، ووصف لهم حجم النيزك الضخم ووجه كلامه حينذاك لسمير قائلا: تخيل يا سمير صخرة ضخمة تسير بسرعة سبعين كيلو متر فى الثانية الواحدة تسافر في الفضاء وتخترق سماء الأرض وترسو على أدمغة الناس وقلوبهم، هل يستطيع الناس الهرب وقتها يابنى ؟

 

انتصب سمير واقفا وشرع فى الخروج من المقهى ولسان حاله يردد: حتى وإن استطاعوا الهرب يا أستاذ أحمد لكنها لم تستطع، وهرب الدمع الهتون من مخازنه وسال على وجهه يطهره من الغضب، كانت جميلة مثل زبيدة ثروت وكان اسمها زبيدة، تعمل موظفة فى التأمينات الأجتماعية، أحبها سمير الذي كان يشتغل موظفا فى مصلحة الكهرباء، كانا يأتيان يوم الإثنين شارع محمد على _ أحد أكبر شوارع بورسعيد _ ليزورا المحلات التجارية حيث موعد زفافهما قد اقترب.

 

اختبأت زبيدة فى صدره هامسة: أشتاق إلى ليلة الزفاف، دعوت الله فى خلواتى بأن يرزقنى بولد منك وأسميه عبد الحليم.

 

قاطعها سمير مندهشا: عبد الحليم !!

 

 ضحكت مثل حوريات الأساطير القديمة قائلة: أجل، إنه حبيب زبيدة.

 

طبع على جبينها قبلة حانية مطمئنا إياها: حبيب مادام فى العمر بقية.

 

يهجم الناس على الحوانيت ويقتتلون على بضاعتها، وتصدح مكبرات الصوت فى المساجد بأدعية التضرع والرجاء، تئوب نظرات سمير مرة أخرى إلى المحكمة المقابلة، حكمت المحكمة ببراءة المتهم من جريمة القتل الخطأ المسندة إليه، يخرج المتهم لسانه من وراء القفص ويحدج سمير بنظرة ازدراء ويبتسم، يسقط سمير مغشيا عليه، كانت تعبر الشارع وكان هو فى الناحية الأخرى يشتري علبة سجائر، ومن بعيد كان الشيطان يقود سيارة من الجحيم ويقتلها بلا هوادة، أجراس الكنائس تئن فى خوف وتذلل، وصراخ النساء يتيه فى زحام القتلى الذين امتلأت بهم الشوارع، تشتعل النيران فى العمارات السكنية وتستغيث العجائز، ولا أحد يرأف بالأطفال، الجموع تغزو المحال التجارية والصيدليات والبنوك، السيارات فى كل مكان وكذلك الخطيئة، حمل خطواته وشرع فى الذهاب إلى أحد الملاجىء التى أعلنت عنها الحكومة، ابتلع دهشة الحياة كلها فى مرارة عندما رأى استاد بورسعيد، أين سيكون الملجأ؟ فى غرفة تغيير ملابس اللاعبين أم فى المدرجات، البلطجية يحتلون مداخل الاستاد، لا أحد يستطيع الدخول سوى الأغنياء، هؤلاء الأوغاد جل همهم تحصيل النقود.

 

 اقترب من أحدهم وسأله: ماذا ستصنع بتلك الأموال ومتى ستستمتع بها وأين ستنفقها؟

 

 جاوبه بكل ثقة: هل تصدق بأن غدا هو نهاية العالم؟ كم من مرة أخبرونا بأن نيزكا سيضرب الأرض وتختفي الحياة ولكن الحياة تستمر، هذا مصدر رزق يا أستاذ وفرصة لن تعوض.

 

بادره سمير: ولكن عملك هذا يغضب الله

 

احتد البلطجى عليه صارخا: ربك رب قلوب، ارحل من هنا وإلا قتلتك .

 

يهم سمير بالانصراف وفجأة يدفع أبواب أذنيه صوت يعرفه جيدا، صوت يبغضه كثيرا، ويلتفت ويراه، إنه قاتل زبيدة، يقف مع البلطجى ويضحك، وينفث دخان سيجارته فى زهو قائلا: النقود أمان الدنيا والآخرة، ويستطرد إن جاء النيزك فالحماية متوافرة والمخزون الغذائي يكفي لعدة سنوات، وإن غير النيزك رأيه وزار كوكبا آخر فأهلا وسهلا.

 

رد عليه البلطجى مؤكدا: صنيع خيركم يشهد عليكم يا حاج سيد، تذبحون الأضحيات فى الأعياد، وتنفقون أموالكم على المحتاجين في السر والعلن.

 

قاطعه الحاج سيد: لا أحب الحديث عن نفسى كثيرا، ولكن الناس لا يقدرون معروفنا، ثم نفث دخان سيجارته فى وجه البلطجى وشرع في الدخول.

 

الحاج سيد يستغيث وسمير يكيل له اللكمات، ولم يهتم لأمرهما سوى البلطجى الواقف الذى أخذ بتلابيب سمير ورماه بعيدا وحذره من العودة مرة أخرى وإلا قتله.

 

عاد سمير إلى شقته، وجهز قهوته وأشعل سيجارة واسترجع الشريط مرة ثانية، كانت تحب فيروز كثيرا، قالت له: سمير ليلة زفافى دع الفرقة تنشد أغاني فيروز لاسيما أغنية آخر أيام الصيفية. انتفض واقفا وولج إلى الشرفة ونظر إلى السماء وبكى ثم قال: يقولون بأن الغد هو نهاية العالم، والناس لم تتغير، زادتهم النهاية بؤسا وجرما، كانوا يسرقون فسرقوا اليوم أكثر، كانوا يقتلون فقتلوا اليوم وفجروا، كانوا يرشون القلوب بالعفن واليوم التهموها بأسنانهم ولم يبالوا، كانت أحلامنا بسيطة جدا ليلة زفاف وأيام من العسل فى الأسكندرية ووجبة عشاء من حساء السيفود والمأكولات البحرية، وسماع أغاني فيروز عندما أثرثر معها آخر الليل وولد يجبر بقلوبنا، لماذا يهنأ الظالم دائما؟ حتى فى أحداث النهاية يجتاز كل الصعوبات، لماذا ينام الطيبون كل ليلة وكأنها الليلة الأخيرة؟

 

يقف وحيدا ولا رفيق له سوى طائر نورس شريد، يقرأ الفاتحة أمام قبرها ويبكى، يهمس: يقولون يا حبيبتى بأنها القيامة، ومع ذلك قام بعضهم بتجهيز حفلات ضخمة لاستقبال النيزك، أى عبث هذا، يستقبلون النهاية بالخمور والجنس وموسيقى الروك، والبعض الآخر ذهبوا إلى الملاجىء يغشاهم اليقين بأنهم من أهل الجنة، ومنهم الحاج سيد الذى احتسى دمائك وأخرج لسانه من وراء القفص لى يجزم بأنه من الصفوة المختارة للسكن فى قصور السماوات، لن أفعل مثلهم يا زبيدة، سأذهب إلى الشاطىء، هل تذكرينه ؟ وسأنتظر عدل الله، أنا مشتاق للنهاية، سأراك وسأرى أمى، أمى التى ماتت بسبب تشخيص خاطئ لطبيب مجرم، استعدى يا حبيبتى لم يتبق من الوقت سوى ساعات ...

 

 

 

المشهد الثانى

 

تعال معى واخفض صوت أنفاسك، اقترب وتحسس خطواتك، هل ترى تلك الفتاة ؟ أجل إنها سميرة، وهذا هو مسجد مريم أحد مساجد مدينة بورسعيد، إنها تمسك مسبحتها وتهمس: يا لطيف، كانت أمها فى المستشفى، والأطباء يحاولون إنقاذها، وأخيها يفرش الأرض بقلة حيلته، أحد الأطباء أهمل فى علاجها ومتابعة حالتها، وعندما أخبروه بتشخيصه الخاطئ فر هاربا وترك أمهما بين الحياة والموت.

 

سميرة تحمل فى أحشائها حلاوة الأيمان، وتتساقط من جسدها أنوثة بنات الشرق، كانت تحب ابن عمها، واتفقا على الزواج وبارك الأهل، لكنه غاب عن ليلها منذ أن مرضت أمها، وكما قال درويش: تنسى كأن لم تكن. قبيل الموت بلحظات أوصتها والدتها: لا تخافى يا سميرة ولا تحزنى، خذلك ابن عمك لكن الله سيرزقك جبرا يتعجب له أهل السماوات والأرض، غاليتى عندما تُكسر القلوب سينتشر القبح، وحينذاك ستسقط كتل النار من السماء، ولن يأمن سوى أصحاب القلوب السليمة.

 

سميرة تردد يا لطيف وتبكى متضرعة: خذلنى ابن عمى وأطفأ الشمس في قلبي، لم أشته سواه ورحلة حج أكافئ بها أمى، وحياة هانئة لأخي، بيد أنى سعيدة، أحبك يا الله أنت تسمع وترى، لا أشكو الآن ولكننى أبوح لك، أرجو رحمتك، إن كان الغد هو النهاية، فاجبرنى وارزقنى رؤيتك ورؤية نبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورؤية أمى، لا أخاف النهاية ولكن أبغى رضاك، سأستريح غدا على الشاطىء أذكرك وأشكرك وأنتظر الفرج والرحمات.

 

 

 

عودة لمشهد النهاية

 

يزحف المغرب وحيدا مرتديا عباءة سوداء، يشعل سمير سيجارة أخيرة ويترقب، نظراته حائرة ما بين السماء وأخته سميرة، وفجأة تسطع السماء سطوعا شديدا وتزمجر، هنا صرخ سمير ورمى سيجارته وزفر تنهيدة راحة صائحا: العدل ، وبجواره أخته سميرة ترفع أكفها إلى السماء هامسة يا لطيف يا لطيف، ومن بعيد يزدحم الأفق بأشخاص مذعورة واستغاثات مكلومة ولكن لم تعبأ السماء ..