«امسك حرامي» قصة قصيرة للكاتب أحمد فؤاد الهادي

الكاتب أحمد فؤاد الهادي
الكاتب أحمد فؤاد الهادي

توقف به الزمن عند هذا اليوم، كان يوما بلا غد، رغم أنه كان يعد له منذ عدة أسابيع، فهو موعد الكشف الطبي لتجديد رخصة القيادة المهنية التي حصل عليها بشق الأنفس منذ ثلاث سنوات بعد تأديته للخدمة العسكرية والتي تعلم خلالها قيادة السيارات، وعندما لمس رخصته لأول مرة انتابته راحة ليس مثلها راحة، فقد أصبح لديه ما يؤهله لمجابهة الحياة بعد أن ترك المدرسة ولم يتعلم أي حرفة يمكنه ممارستها.

في غرفة فحص النظر، أصابته نظرات الطبيب بالريبة، شعر أن هناك شيء غير طبيعي في انتظاره، فما أن فرغ الطبيب من فحصه حتى جلس إلى مكتبه وهو يخبره أنه غير لائق طبيا، فالعين اليسرى قد أصابتها المياه الزرقاء ولا سبيل لعلاجها، وأن هذه العين سوف يتلاشى منها النظر على مر الأيام حتى تظلم تماما.

     لقد عاد إلي نقطة الصفر حينما كان عالة على شقيقه الأكبر، بل عاد إلى ما هو أشد مرارة منها، ففي عنقه الآن زوجة وطفل رضيع، وشقيقه الأكبر قد مات إثر حادث سيارة تعرض له منذ شهور، عليه الآن أن يعيد السيارة التي عمل عليها إلى صاحبها، فلم يعد سائقا بعد.

استقبله الحاج صبحي صاحب السيارة متهللا وهو يبارك له أن أنهى تجديد رخصته بهذه السرعة، ولكن الرجل ابتلع ابتسامته وذهب تهلل وجهه عندما رأى الحزن والانكسار يملآن وجه الأسطى فرج الذي مد إليه يده بمفاتيح السيارة وأوراقها ثم غلبه البكاء وهو يحكي له ما صارت إليه الأمور، أشفق عليه الرجل ودس في يده مبلغا بسيطا من المال زيادة عن أجره وأخذ يواسيه ويشد من أزره حتى ودعه بالدعاء.

دارت الدنيا بفرج، فأصبح شغله الشاغل أن يتحايل على الدنيا كلها ليوفر قوته وقوت أسرته الصغيرة، عمل حمالا في السوق، فرض نفسه وأذلها ليسمح له بعض أصحاب المحلات بتنظيف محلاتهم مقابل القليل من الجنيهات، كان قوي البنية، ولكنه منهار داخليا، فلا جنيه يبقى من يوم ليوم أخر، إفلاس مستديم، حتى خرج في يوم كعادته يقطع الشوارع ويطوف بالأسواق والمحلات عارضا مجهوده بأي ثمن، ولكنه في هذا اليوم لم يقابله إلا الرفض وأحيانا التملق.

      عندما كلّت قدماه سعيا كان مارا بحديقة عامة، وبلا تفكير دخلها، تصدرت المشهد أمامه شجرة عجوز وقد تضخم جزعها وانتشر ظلها فقصدها وألقى بجسده على الحشائش التي تحيطها وأسلم لها ظهره ومدد ساقيه المنهكين وأغمض جفنيه وكأنما أرد أن يفر من واقعه لبضع دقائق.

قطة تركت كل من في الحديقة وهرعت إلى فرج، أخذت تتمسح في ثيابه وكفيه، تتشمم ساقيه وقد تعريتا من ستر جلبابه، فتح جفنيه ليراها وهي تطالع وجهه بنظرة جعلته يشعر أنها مثله جائعة وتبحث عن طعام.

في مقابل الشجرة وعلى بعد أمتار افترشت مجموعة من الشباب الأرض وبدأوا في إعداد عدتهم للشواء وهم يتضاحكون بل وأحيانا يتراقصون، فاحت رائحة الشواء حتى طغت على رائحة زهور الحديقة، تسمرت نظرات القطة في اتجاه الشواء، لعلها تفكر في شيء ما، فلما فرغت من التفكير توجهت إلى حيث يجلسون، وأخذت تموء مستجدية ولكنهم قابلوها بالزجر والنهر والطرد، فانسحبت حزينة ولكنها لم تعد إلى حيث كان فرج مازال جالسا، دارت حولهم حتى نسوها تماما وقفزت قفزة واحدة واختطفت ما طالته مخالبها من طيب الشواء واختفت كالشبح، تبادلوا نظرات الدهشة ثم انفجروا ضاحكين.

      كان فرج يتابع القطة وكيف بدأت بالاستجداء فلما قوبلت بالاستهزاء لجأت إلى العنف، هو لا يحب العنف، ولكن لماذا لا يجرب الاستجداء؟ وماذا لو استهزأوا به؟ لا.. لا.. لم يتسول ولن يتسول، واستند إلى الجزع وراح في غفوة.

ظل عقله مستيقظا يدور في فلك معضلته: معدته على وشك أن تهضم جدارها والزوجة التي جف حليبها والرضيع الذي التصق جلده بعظامه من الجفاف.

       تصيده الشيطان ليزين له أن يفعل فعلة القطة، ما أروع أن تعود لبيتك محملا بالمشويات، تأكل أنت وزوجك حتى يجري الحليب في ثدييها فيسترد الرضيع عافيته، فها هو ينقض على السفرة العامرة ويخطف طبقين مملوءين بما لذ وطاب ثم يستدير هاربا في لمح البصر قبل أن يفيق أي من الشباب من صدمته، اضطرب قلبه وعلت نبضاته وهو يجري قابضا بكلتا يديه على غنيمته، أصوات قوية تصيح: حرامي … أمسك حرامي.. حرامي.

      انتفض متلفتا في رعب في كل اتجاه، الصراخ لا ينقطع: أمسك حرامي … أطلق ساقيه للريح، يجري وسط من يجرون، لم ير شيئا مما حوله، شغله ما ورطه فيه الشيطان، الذنب والفضيحة، عقله يتساءل: هل بعد صبرك يا فرج تطعم أهلك حراما؟ كاد أن يبكي، أفاق من غفوته، فلا شيء في يديه، لا طبق ولا رغيف، الناس يجرون حوله ويتجاوزونه ولا أحد يمسك به أو حتى ينظر إليه، مازال البعض يصيحون: أمسك حرامي.. حرامي، أدرك كل الحقيقة عندما سأل شيخا كان وقفا يتابع ما يحدث: لقد خطف أحدهم هاتفا من أصحاب الشواء فتركوا شواءهم وجروا خلفه مستغيثين بالناس في الشارع، نزل كلام الشيخ على قلب فرج بردا وسلاما، طغت السعادة على كل خلاياه وهو يحمد الله أن حال بينه وبين الحرام، ذهب الجوع، استدار عائدا ولكن إلى باب الخروج من الحديقة، في طريقه مر بالسفرة العامرة، لم يشم رائحة للشواء، لم تبهره قطع اللحم ولا قطع الدجاج المشوية، لا أحد يحرس السفرة، ولكن الله كان يحرسه من الوقوع في الحرام، خرج إلى شارع ليواصل سعية إلى لقمة عيش بالحلال.