يوميات الأخبار

أحنّ إلى «كحك» أمى!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

أستيقظ على تلك الرائحة، التى تمزج عبق التهام النار للحطب، بآخر ناتج عن استسلام العجين للوهج. يتسلل المزيج الساحر إلى أحلامى فيوقظني.

«حِتّة من موّال»

الخميس:

شوارع المدينة لا تهدأ، حتى تلك البعيدة عن الطُرق الرئيسية تقاوم أية شروط تحاول الليالى فرْضها. إلى مطلع الفجر يُهيمن الصخب بسطوته داخل البيوت وخارجها بدرجات متفاوتة. ينطلق صوت الرجل من بعيد كطلاسم غامضة، دقّات طبلته أكثر وضوحا، تمتلك قدرة أكبر على شق طريقها نحو الآذان. تدريجيا تتضح عذوبة ترنيماته. بعد كل عدة دقات يستحضر الرجل رائعة الكبير فؤاد حداد ويشدو بتصرف بسيط: «مسحراتى وصنعتى فى البلد جوال..

حبيت ودبّيت كما العاشق ليالى طوال». يا لها من ليلة ساحرة، بدأتْ بتلاوة شيخ لا أعرف اسمه فى صلاة التراويح بمسجد قريب من بيتي، يبذر صوته الشجيّ فى صدرى خشوعا يفتح أبواب السماء. إنها الإيقاعات المصرية التى نجحت دائما فى طرد شياطين تعرف طريقها إلىّ! القرآن هو القرآن، لكن حلاوة التلاوة تجعله ينساب إلى قلوب أنهكتها الخطايا، حتى لو كانت الخطيئة مُجرّد فكرة مع وقف التنفيذ.

هاهو المسحراتى يشق أمواج الزمن من جديد. مهنة كان يُفترض أن تنقرض فى مدن لا تنام، وبالتالى لا تحتاج لمن يوقظها من سُبات غائب أغلب الوقت. فتح من خلالها البعض باب رزق فى الشهر الكريم. يقف زائر الفجر تحت شبّاك شقتي، ويواصل: «وكل شبر وحتة من بلدى حتة من كبدى حتة من موّال». فى اليوم التالى أسأل الحارس عنه، فيؤكد أنه لا يعرف عنه شيئا، أشعر بالدهشة لأن حارسنا لا تخفى عليه خافية. تشغلنى الحياة اليومية عن طبيعة الرجل، الذى لا يكتفى باستحضار طقس غائب. أنتظره كل مساء لأتمتع بأدائه المُبهر، فى حضور مؤقّت ينتهى مع هلال شوال. اللحظات الحُلوة دائما تُلملم أوراقها وترحل بسرعة الفراق.

وقعتُ فى فخ الروتين

السبت:

حالة من الزخم تجتاح الشاشات منذ بداية الشهر. أعمال درامية تتنافس على اقتناص المشاهدين، وصخب على وسائل التواصل يمتزج فيه المنطقى مع اللامعقول. إنها فرصة لضخ مزيد من الحديث حول كلّ شيء وأى شيء! وإشباع شهوة الجدل اللانهائى بداخلنا. هكذا أنشغل عادة عن الأحداث التى تتوالى فى مسلسل عابر، وأرحل فى دهاليز الأفكار كسيناريست يبحث عن فُرصة!

قبل سنوات فاجأتْنى زوجتى بطلب غير مُعتاد. مفروض علىّ أن أذهب لمدرسة ابنى كى أسحب الملف الخاص به، تمهيدا لنقله إلى مدرسة أخرى. طلبتُ منها أن تُنهى المهمة بنفسها، فقد اعتدنا عبر أعوام سابقة أن تتولى هى مسئولية التعليم، والتواصل مع المُدرّسين ومراجعتهم فى أية أمور تتعلق بهذا الشأن، لم يكن اتفاقنا الضمنيّ خارجا عن المألوف، فالغالبية العظمى من البيوت المصرية تتّبع الأسلوب ذاته، ومن هنا نشأت فكرة «جروب الماميز»، التى أصبحت ظاهرة استحقت الرصْد فى عمل درامي. أخبرتْنى زوجتى أنها حاولت، لكنّ مديرة المدرسة ذكرتْ أن الأب وحده هو الذى يمتلك هذا الحق الأصيل!

تعجّبتُ لأن كل أفراد هيئة التدريس لا يعرفون الآباء عادة. وقتها كنتُ مشغولا بأعمال لا أذكرها، أو راغبا فى التنصل من مسئولية سبق أن منحنى القدر فرصة الهرب منها مرات عديدة.

هنا تفتّق ذهنى عن حيلة مُبتكرة، هى أن تستعين زوجتى بوالدها طالما تحتاج المدرسة إلى رجل، ولا تعترف بوصاية الأم. بابتسامة خبيثة ذكرتْ أنه ليس من حق أبيها التدخل، فالحق مكفول لى فقط أو لوالدى الذى انتقل إلى الرفيق الأعلى، أو أخ ينوء بحمولته من المشاغل الشخصية!

وقتها استطعتُ تدبير الوقت وأنا أكظم غيظى فى مواجهة ابتسامة نصر ارتسمتْ على شفتيها خلال عبورنا باب المدرسة، وازداد اتساع الابتسامة وهى تتابع مناقشة عقيمة أجريتُها مع المديرة، التى بدتْ مقتنعة بمنطقى لكنها اعتصمت بجبل من اللوائح! هنا وقعتُ على الطلب، وانسحبتُ تاركا لزوجتى إتمام بقية المهمة الصعبة، فتراجعتْ ابتسامتها أمام تعبيرات شريرة ارتسمت على وجهي، بعد أن انتصرتُ وتركتُها تواجه وحدها ما تبقّى من روتين.

تكرّر الأمر بعدها عدة مرّات فى مراحل تعليمية مُختلفة، وتعاملتُ معه على أنه مشكلة شخصية تستهدف حالة «شراء الدماغ» التى أدمنتُها، بعد أن ألقيتُ العبء كله على زوجتي، وتغافلتُ عن كون الأزمة أكبر من ذلك بكثير، فما أتعامل معه باعتباره صداعا مؤقّتا يتحول لدى آخرين إلى سلاح فى معركة تكسير عظام، بين أطراف عائلية متنازعة، تكون نقطة انطلاقها موت الأب أو انفصال الزوجين. فى المناخات الصحية تستدعى إحدى المأساتين أن نُطلق شحنات التعاطف مع الأبناء، غير أنهم يتحولون لوقود حرب لا تنتهى بهدف فرض الوصاية، فالأم التى تحمل أسفار المعاناة أغلب الوقت، تجد نفسها فجأة غير قادرة على تحديد مصير أبنائها، فى لُعبة كرّ وفرّ مع أطراف تسعى للاستحواذ على ميراث لا تستحقه.

هجمة من وراء حجاب!

تذكرتُ كل ذلك وأنا مُمدّد على السرير، أشاهد مُجبرا ما يفرضه المحيطون بى على شاشة التليفزيون. اهتماماتنا مُختلفة لكن حُكم الأغلبية يسرى على الجميع. زوجتى وابنى حريصان على مُتابعة أعمال لا تستهويني. لستُ من أنصار الكآبة التى تصنع عادة دراما أكثر رسوخا، ففى السنوات الأخيرة أصبحتُ أكثر ميلا لمتابعة التفاهات، لا أرغب فى الارتباط بقضايا كبرى، فكل منا لديه ما يكفيه منها، لهذا أحرص على متابعة أعمال خلا معظمها من المضمون، واعتمد على الضغط على المشاهد ربّما يبتسم بالإكراه، حتى لو كان المحتوى غير مُفجّر للضحك. وسط كل ذلك اجتذبتنى مشاهد مُتقطّعة من مسلسل «تحت الوصاية». رغم أنه ليس الأول فى تناول القضية، لكن الأداء المُتميز لأبطاله كفيل بحشد تعاطف غير مسبوق مع ضحايا الأزمة المُزمنة، خاصة أن السيناريو ابتعد عن الدعاية المباشرة، التى تجعل المشاهد يشعر أنه أمام خُطبة أو موضوع تعبير.

الحديث عن الفن الهادف لا ينتهي، كتب الكثيرون عنه باقتناع أو لشن هجمات مُرتدة على أعمال تُبرز بعض سلبياتنا، وأحيانا لملء صفحات تمنح العديدين حق إثبات وجودهم. وبعيدا عن التنظيرات، يخرج كلّ فترة عمل يُقدم تطبيقا عمليا للعلاقة الناجحة بين المُبدع والمتلقّي.

لن أقدم تحليلا نقديا للمسلسل، خاصة بعد أن اعترفتُ أننى لم أتابع منه سوى بعض المشاهد، لكنه يوثّق- بعيدا عن الفن- لواحدة من أكبر سلبياتنا. إنه التربّص الذى أصبح خطيئة نتلذّذ بها. قبل بدء عرضه بأسابيع، تعرّض «تحت الوصاية» لهجمة شرسة، اعتمادا على الملصق الدعائى الخاص به. تبدو فيه الفنانة منى زكى مُتجهمة وهى ترتدى الحجاب، وعلى الفور تبارى ضاربو الودع فى قصْفه، وزعموا أن البطلة المُكتئبة سوف تصبح أكثر جمالا وانطلاقا بعد أن تخلع الحجاب! وأعتقد أن هؤلاء لن يشعروا بالخجل بعد أن اكتشفوا أن خيالهم المريض يحتاج إلى حزمة إسعافات أولية، فهم يراهنون على سذاجة من صدّقوا مزاعمهم وأعادوا تداولها دون انتظار عرض العمل. وفى النهاية اتضح أنه لا يهاجم الحجاب، بل ينتصر للمرأة الكادحة، بعيدا عن فاتنات تعشْن فى القصور، وكثيرا ما غازلتهن الدراما قبل سنوات طويلة، وداعبتْ بقصصهن أحلام يقظة الكثير من المُهمّشين.

ذاكرة الروائح

الأربعاء:

للروائح مكانها فى الذاكرة، بل إنها قد تنافس الصور القديمة والأحداث التى تفرض نفسها. وفق قاعدة الارتباط الشرطى قد تستدعى الذاكرة أمرا مُرتبطا بالزمن. إنها استعدادات العيد، حيث تبدأ رحلة البحث عن مكان أفضل لشراء الكعك وأخواته، وفقا لمعايير الجودة والسعر الأكثر ملاءمة للجيوب.

نستعرض البدائل، وعلى طريقة الأفلام أشرد كالعادة، وبدون موسيقى تصويرية يتداعى شريط أحداث عمره نحو نصف قرن، ملامح الأشخاص أصبحت ضبابية رغم أنهم كانوا يوما أقرب الأقربين. تفاصيل المنزل الريفى القديم تآكلت داخلى بعد سنوات من هدمه وتحويله إلى عمارة خرسانية من عدة طوابق. وحدها الرائحة احتفظت بطبيعتها النفاذة.

أستيقظ فى الصباح الباكر على ضجة غير معتادة، والنسوة فى وسط الدار تجتمعن حول الفُرن الطيني. ما يحدث ليس مفاجئا، فقد سبقتْه ليلة كاملة من «اللّت والعجْن»، ساهمنا فيها كأطفال بمحاولات فاشلة فى نقْش الكعك ونحْت قوالب البسكويت، لتلتقط الكبيرات نتاج فشلنا وتقمْن بإعادة تشكيله.

أنام بعد تعب الليلة المُبهجة ثم أستيقظ على تلك الرائحة، التى تمزج عبق التهام النار للحطب، بآخر ناتج عن استسلام العجين للوهج. يتسلل المزيج الساحر إلى أحلامى فيوقظني. أغادر سريرى مُسرعا نحو المُنتجات متنوعة الأشكال والمذاقات، أتجاهل صيحات التحذير من سخونتها، وألتهم أول ما تقع عليه يدى مع صرخة ألم أكتمها كى أتفادى اللّوم.

من جديد تُصبح الذكريات حاضرة، ربما لأننا شعب مولع بالحنين، أو لأنها حالة مُرتبطة بالتقدّم فى العُمر. ومرة أخرى تنتابنى الرغبة فى الفلسفة. ما هى الذكريات التى يُمكن أن يستحضرها ابنى بعد ثلاثين عاما عن بشائر العيد؟

بالتأكيد لن أسأله، لأنه سيرد كالعادة بهمهمات غير مفهومة وهو مشغول بالتفاعل مع جهازه المحمول.

وقد يُفكّر فى أن أباه كبر ولا يجد ما يشغله سوى الاستفسارات العبثية. بالتأكيد لن تكون ذكرياته كذكرياتي، سوف يشعر بحلاوة الحنين لأمور مُختلفة، هى بالنسبة له أفضل من حكايات مُملّة أحكيها عن عجين يتحول أمام أعيننا إلى حلوى شهية، بينما يُمكن الحصول عليها من مخبز أو محل دون سهر الليالى قبلها.

شخصيا عايشتُ الحالة نفسها مع والدتي، التى حاولت الحفاظ على الطقس ذاته فى المدينة الكبيرة، عبر «فُرن البوتاجاز» الأكثر ملاءمة للشُقق الحديثة.

أخوتى الأصغر عُمرا يُعربون عن ضيقهم من المشقة المُرتقبة، ويتعجبون من حماسى مع أختى الأكثر قُربا منى فى السنّ والإحساس. وفى النهاية تنتصر طقوس الماضي، ونستمتع بطعم الكعك المنزلي.. وربما يكون مبعث المتعة هو مذاق الحنين. مع الاعتذار لمحمود درويش، أقول باختصار: أحنّ إلى «كحك» أمي.