فصاحة القرآن نسبة الخير لله

سورة الكهف
سورة الكهف

خلاصة المقالة السابقة أن ألفاظ القرآن الكريم سر من أسراره الإعجازية، ومقالتنا اليوم تتمة لمقالة الأمس لما لها من أهمية، والآن مع سورة الكهف التى لا تكاد تنفد أسرارها، نسرد الآيات جملة واحدة ثم نعود لبيان الشاهد منها.


يقول الله تعالى على لسان الخضر عليه السلام: ﴿أما السفينةُ فكانت لمساكينَ يعملون فى البحرِ فـ(أردتُ) أن أعيبَها وكان وراءَهم مَلكٌ يأخذُ كلَّ سفينةٍ غصبًا * وأما الغلامُ فكان أبواهُ مؤمنينِ فخشينا أن يرهقَهما طغيانًا وكفرًا * فـ(أردنا) أن يُبدلهما ربُّهما خيرًا منه زكاةً وأقربَ رُحمًا * وأما الجدارُ فكان لغلامينِ يتيمينِ فى المدينة وكان تحتَه كَنزٌ لهما وكان أبوهما صالحًا فـ(أراد) ربُّكَ أن يبلغا أشدَّهما ويستخرجا كَنزَهما رحمةً مِن ربِّكَ وما فعلتُه عن أمرى ذلكَ تأويلِ ما لم تسطعْ عليه صبرًا﴾.


تكرر الفعل «أراد» فى هذه الآيات ثلاث مرات، فى الآية الأولى أسنده الخضر عليه السلام إلى نفسه «أردتُ»، وفى الآية الثانية جاء الفعل مشتركًا «أردنا»، وفى الآية الثالثة جاء الفعل مسندًا لرب العزة سبحانه «أراد ربُّك»، فما سر التنويع فى إسناد الفعل للضمائر فى الآيات الثلاثة؟
السر البلاغى الذى كشفه أهل العلم أن الخضر عليه السلام فى الآية الأولى عبّر عن خرق السفينة بقوله: «فأردتُ أن أعيبَها»، فنسب الضمير إلى نفسه حتى لا يُسند العيب إلى الله تعالى، ثم قال فى قتل الغلام: «فأردنا أن يُبدلهما»، فجاء بالضمير مشتركًا لأن العمل ظاهره الشر وباطنه الخير، فجاء بالضمير المشترك للعمل المشترك، ثم قال بعدها: «يُبدلهما ربُّهما خيرًا منه» فأسند الإبدال إلى الله وحده، ولم يقل: «نبدلهما».
ولكنه فى الآية الثالثة لما جاء ذكر إقامة الجدار أسند الفعل إلى الله وحده: «فأراد ربُّك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما»؛ ذلك لأنه عمل خير محض، فجاءت ألفاظ القرآن على لسان الخضر فى غاية التأدب مع الله تعالى.. وعلى هذا المنهج تمضى آيات القرآن من نسبة الخير لله كقوله تعالى فى سورة الصافات: ﴿إنّا زيّنا السماءَ الدنيا بزينةٍ الكواكبِ﴾، فأسند الفعل «زيّن» إلى الله، ثم لما جاء حبُّ الشهوات فى سورة آل عمران نُسب للمفعول فقال تعالى: ﴿زُيِّنَ للناس حبُّ الشهواتِ مِن النساءِ والبنينَ والقناطيرِ المقنطَرةِ مِن الذهبِ والفضّةِ﴾، فاللهم ارزقنا حسن الأدب، وفهم لغة العرب.

د. محمد عاطف التراس