محمود الوردانى يكتب: عن سردية فيروز كراوية ( 3 – 3 ) الدولة تمسك بالميكروفون

محمود الوردانى
محمود الوردانى

أختتم هنا الإشارات السريعة التى كنت قد بدأتها حول سردية فيروز كراوية، على مدى الأسبوعين الماضيين، وهى السردية التى عالجت نقصا معرفيا فادحا فى الموسيقى والغناء، وبعبارة واحدة: لم يكن لدينا فى المكتبة العربية كتاب ومرجع محترم قبل كتابها دون مبالغة، أو على الأقل فى حدود ما قرأت.

فعلى سبيل المثال، فى القسم الأول من الفصل الثالث «عندما تمسك الدولة بالميكروفون» تتابع كيف انتبه الضباط الأحرار الذين قاموا بحركتهم فى يوليو 1952 للموسيقى والغناء بوصفهما جزءا من ماكينة الدعاية للعهد الجديد، لتأسيس نظام وصاية فكرية كاملة على الشعب باسم الشعب. ضمانته الأساسية هى حسن نوايا الضباط ووطنيتهم» حسب تعبيرها، وأصبحت الأغنية الوطنية تحديدا إحدى «أهم أدوات التعبئة التى تكرس العلاقة الجديدة بين الشعب وحكامه» حسبما أضافت.

وفى يوليو 1963 مثلا قدّم فنانو العهد الجديد فى عشرة أيام 36 نشيدا وأغنية (وطنية) فى السريع، ولم يكن دور الأغنية يتجاوز أبدا الإشادة بالنظام الجديد وتحويل شعاراته «التصنيع الثقيل والوحدة الأساسية للاتحاد الاشتراكى وشعارات الميثاق والتماثيل الرخام والأوبرا على الترع الوطنية» إلى أغانى لم تعش طويلا.

الكلام لايدور هنا حول مجرد إمساك الدولة بالميكروفون، بل يدور أيضا عن التحول فى اقتصادات الإنتاج الفنى وقوانين الرقابة واختراع ما أسماه النظام الجديد» الفنون الشعبية» ووضعها تحت وصاية مصلحة الفنون.

ولم تكن هناك أماكن يتم من خلالها استهلاك تلك الفنون إلا تلك التابعة للدولة، والإذاعة والتليفزيون جهازان تابعان للرئاسة مباشرة، قادهما أغلب الوقت مهندس الدعاية الكفء عبد القادر حاتم، ولم يغب عن باله لحظة واحدة أن الأغانى والموسيقى أدوات للحشد وترديد الشعارات.

ثم تتابع الكاتبة الانتقالة العاصفة التى أعقبت هزيمة 1967 ، وخصوصا خلال نهاية سبعينيات القرن المنصرم، عندما برزت إلى الوجود «الأغنية البديلة» وتكمن أهميتها باعتبارها» تحديا اقتصاديا وإنتاجيا معبرا عن مرحلة الخروج من حضانة المؤسسة الرسمية، والتحقق الموسيقى فى فضاء أكثر تحررا من معاييرها» حسبما كتبت. وعرفت ظاهرة نجم – إمام طريقها إلى الناس من خارج القنوات المسطر عليها، كما أنتجت أشرطة.

الكاسيت التى شهدت انتشارا واسعا فاق وتجاوز الحدود مثل أشرطة أحمد عدوية. وظهرت الفرق الجماعية المشابهة للباند الغربى من خلال فرق مثل المصريين والأصدقاء والفور إم،إلى جانب الانتشار الذى فاق كل توقع لأشرطة عدوية.

أنتقل سريعا بسبب المساحة إلى العصر الحالى بعد دخول الإنترنت والمنصات الرقمية، حيث أتيحت الفرصة للمرة الأولى أمام مئات المغنين والموسيقيين للوصول للجمهور مباشرة، وفق معادلات وظروف جديدة تماما مما يشكّل انتقالة كيفية، وأصبح بالإمكان الوصول لجميع أنحاء العالم بمجرد الضغط على أزرار التليفون المحمول.

تلك باختصار قد تكون الملامح العامة لإنجاز فيروز كراوية فى سرديتها المحكمة والشاملة. لكننى أريد أن ألفت الانتباه إلى أن تناولها لظاهرة فيروز والرحابنة، بما فى ذلك زياد الرحبانى طبعا، كانت متعجلة ولم توفّها حقها باعتبارها تجربة كبرى استمرت وعاشت طويلا.

وهى تجربة وإضافة موسيقية لاتقتصر على صوت فيروز وحده، بل قدّم الرحابنة جدارية كبرى وخاصة جدا داخل السردية العربية. لم تتجاهل فيروز كراوية الظاهرة طبعا، لكنها أشارت إليها عَرَضا، إلا أن هذا لايقلل من انجازها وربما عادت إلى تناول التجربة فى وقت لاحق،وعلى أى حال كتّر خيرك يا أستاذة وشكرا جزيلا.