فصاحة القرآن العدول عن الماضى إلى المضارع

فصاحة القرآن العدول عن الماضى إلى المضارع
فصاحة القرآن العدول عن الماضى إلى المضارع

د. محمد عاطف التراس

تجتمع لدى جملة من الآيات القرآنية التى تمر أمام أعيننا كلما قرأنا القرآن دون أن نتدبرأسرارها البلاغية، وأنا هنا أسرد عددًا من الشواهد القرآنية ليستحضر القارئ الصورة وترسخ فى ذهنه، بحيث يستنبطها فيما لم يذكر من آيات ويسعى لاستكشافها بنفسه.


-يقول تعالى فى سورة البقرة: ﴿ولقد آتينا موسى الكتابَ وقفَّينا مِن بعدِه بالرُّسلِ وآتينا عيسى ابنَ مريمَ البيناتِ وأيَّدناهُ برُوحِ القُدُسِ، أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسُكم استكبرتم ففريقًا كذَّبتم وفريقًا تقتلون﴾. كان الظاهر هنا أن يقول: «وفريقًا قتلتم» بصيغة الماضى وفق سياق الآية، فعدل عنه لاستعمال الفعل المضارع «تقتلون» لاستحضار هذه الصورة الفظيعة أمام عين القارئ ليتصور بشاعة جرمهم فى حق رسلهم الذين يهدونهم طريق الله!
-وفى سورة البقرة أيضًا: ﴿وإذ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ مِنَ البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تقبَّلْ منا إنكَ أنتَ السميعُ العليمُ﴾.كان الظاهر أن يقول: «وإذ رفع إبراهيم» هكذا بصيغة الماضي، لكنه خولف الأسلوب الذى يقتضيه الظاهر لاستحضار الحالة كأنها رأى عين.


-وفى سورة الانفطار: ﴿كلا بل تكذِّبون بالدينِ﴾. وكان الظاهر أن يقول: «بل كذبتم» لكنه عدل عن الماضى إلى المضارع ليفيد أن تكذيبهم بيوم الدين يتجدد ولايقلعون عنه.
-وفى سورة الفيل: ﴿ألم يجعلْ كيدَهم فى تضليلٍ. وأرسلَ عليهم طيرًا أبابيلَ. ترمِيهم بحجارةٍ مِن سجيلٍ. فجعلَهم كعصفٍ مأكولٍ﴾. كان مقتضى الظاهر هنا أن يقول جريًا على نسق الآية: «رمتهم بحجارة» لكنه عدل عن استعمال الماضى وجيء بصيغة المضارع لاستحضار الحالة بحيث تخيل للسامع كالحادثة فى زمن الحال.


-وأختم بمثال بارز من سورة فاطر: ﴿والله الذى أرسلَ الرياحَ فتثيرُ سحابًا فسقناه إلى بلدٍ ميتٍ فأحيينا به الأرضَ بعدَ موتِها كذلكَ النشورُ﴾. كان مقتضى الظاهر أن يقول: «أرسل الرياح فأثارت سحابًا»، فعدل عن استعمال الفعل الماضى إلى المضارع لحكاية الحال الماضية واستحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال قدرة الله، ليلفت نظر المتلقى ويثير انتباهه.