فصاحة القرآن: التعبير بالماضي عن المستقبل

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

كتب : د. محمد عاطف التراس

وأنا أكتب المقالة السابقة لاحت لى بعض معالم الفصاحة القرآنية فى قوله تعالى فى سورة نوح: ﴿مما خطيئاتهم أُغرِقوا فأُدخِلوا نارًا﴾، ولم أسجِّلها حتى لا يطول بنا الكلام، فيخرج عن حد المقال، ويملنا القارئ المتعجل.

اليوم أعود أدراجى لأقف عند كلمة «فأُدخلوا نارًا»، ولماذا عبر القرآن بالفعل الماضى عن المستقبل الذى لم يقع، فقوم نوح لم يدخلوا النار بعد؟

نقول: إن السياق القرآنى هنا سياق معجز، فقد عطف دخولهم النار على غرقهم، وكلاهما لم يقع، والعدول عن التعبير بالمستقبل إلى الماضي؛ لأنه أمر كائن لا محالة، فكأنه قد كان، مما يؤكد فى نفس المتلقى أن الأمر لا مجال فيه للشك، وليثبت الله قلب نبيه بتأكيد تحقق الغرق لقومه على استبعادهم ذلك بسبب ما يعيشون فيه من بيئة صحراوية لا ماء فيها.

وهذا الاستشكال انطلى على بعض المستشرقين فاتهموا القرآن بعدم ترتيب الأفعال وفق زمن وقوعها، وزكى فى أذهانهم هذا الفهم قوله تعالى فى مطلع سورة النحل: ﴿أتى أمرُ الله فلا تستعجلوه﴾، وقالوا: كيف يقول الله تعالى عن يوم القيامة أنه أتى، ثم ينهى عن استعجاله، فاتهموا القرآن بالتناقض!

يقول الشيخ الشعراوى عليه رحمة الله: «إن الذى يتكلم هو الحق سبحانه وتعالى وليس إنسانًا مثلك محكومًا بأزمانه. بل المتكلم هو صاحب كل الأزمان وخالقها. وعندما يقول سبحانه: «أتى أمر الله» فمعنى ذلك أن أمر الله آتٍ لا محالة، لأنه لا قدرة تخرج مراده على ألا يكون».

وهذا الأسلوب فى التعبير عن الأحداث المستقبلية بصيغة الماضى هو مكمن الفصاحة؛ إذ لم يكن هذا من أساليب العرب الشائعة فى كلامهم شعره ونثره، لأن التعبير بهذه الصيغة عن حدث لم يقع لا يصدر إلا عن مقتدر، لأنه إن لم يقع كان الكلام ضربًا من الكذب والخيال.

والظاهر أن استعمال هذا الأسلوب قد شاع فى الآيات التى تتناول أحداث يوم القيامة التى كان المشركون يكذبون بها، فجاء القرآن ليقرع أسماعهم بأخبار غيبية تؤكد أن قيام الساعة أمر واقع لا محالة، ومبالغة فى هذا التأكيد جاءهم القرآن بأسلوب بليغ لم تعهده أسماعهم!

اقرأ ايضاً| علي جمعة يكشف عن «كنز الإسلام»