الجبرتي يكتب عن «مدعي النبوة» الذي فضل الموت عن ترك الجنون

الجبرتي
الجبرتي

لا يختلف اثنان على مصداقية الجبرتي كأحد أصدق المؤرخين الذين تناقل الجميع ما دونه من كتابات ومخطوطات باعتبارها الروايات الأكثر صدقًا وتوثيقًا للحقبة الزمنية التي عاش فيها الجبرتي ودونها بكل دقة وأمانة بحيث يمكن اعتباره شاهدًا على العصر خلال الحملة الفرنسية وما سبقها وتلاها من أحداث جسام مرت بها مصر.

وفي هذه السطور نبحر سويًا في تفاصيل إحدى الحوادث العجيبة التي دونها الجبرتي بأسلوبه المشوق الممتع عن رجل ادعى النبوة وظل على جنونه حتى أمر الوالي بقتله قبل أن يفتن الناس بتخاريفه. 

في البداية يجب أن نتعرف أكثر على عبد الرحمن الجبرتي الذي يعد أحد كبار المؤرخين في التاريخ العربي والإسلامي، عاصر الحملة الفرنسية على مصر، ودَوَّن وقائعها في كتابه الشهير «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، والذي يعد أحد أهم المراجع التاريخية لتلك الفترة.

ولد عبد الرحمن بن حسن برهان الدين الجبرتي عام ١٧٥٤م، ينحدر نسبه من أصول هاشمية. 

كان والده أحد أعلام الأزهر الشريف في عصره، وعلى جانب كبير من الثراء، حيث كان له ثلاثة بيوت، ومكتبة مليئة بالكتب القيِّمة والمخطوطات النادرة. 

وقد نشأ عبد الرحمن في هذا البيت العامر بالعلم والدين، وكان الذَّكَر الوحيد الذي عاش لأبيه، فاهتم به كثيرًا ودفعه باتجاه تحصيل العلم؛ فحفظ الصغير القرآن الكريم وهو في سنِّ الحادية عشرة، كما كان يحفظ الأحاديث والروايات والأخبار التي ترد على ألسنة العلماء الذين كانوا يترددون على منزل أبيه.

وقد ساعد الجبرتي في تحصيل العلم تلك الثروة الكبيرة التي ورثها عن أبيه، فكانت لديه رغبة عارمة للمعرفة والاطلاع والترحال، حيث تنقل في أنحاء مصر المحروسة، واتصل بالكثير من علماء عصره، كما جالس عامة الناس وعرف ما يعانونه من شظف العيش. 

وقد أهَّلته هذه الإحاطة الكبيرة بأخبار البلاد والعباد لأن يكون صاحب معرفة موسوعية ونظرة بانورامية على عصره؛ ما جعل رؤيته التاريخية تتمتع بمصداقية كبيرة لدى من خلفه من علماء التاريخ.

اقرأ أيضًا | محافظ قنا يشهد الاحتفال باليوم السنوي للأزهر الشريف 

ظل الجبرتي موجهًا اهتمامه إلى التاريخ، حتى أتت الحملة الفرنسية على مصر عام ١٧٩٨م، وكان عمره آنذاك أربعة وأربعين عامًا، منذ ذلك الحين انصرف إلى تسجيل كل ما يرد من أخبارها أقوالًا وأفعالًا. 

وقد شملت ملاحظات الجبرتي حول الحملة الأبعاد السياسية والاجتماعية والجوانب التنظيمية للجيش الفرنسي، وقد ساعده في ذلك أنه كان يتردد على المنشآت الفرنسية في مصر، وكان يلتقي ببعض رجالهم.

وفور جلاء الحملة الفرنسية انشغل الجبرتي بكتابة تاريخ مصر، وقد عُرف عنه معارضته لمحمد علي باشا، فقد طلب منه محمد علي أن يكتب كتابًا في مدحه، ولكن الجبرتي رفض ذلك، فهدده فرفض الجبرتي الانصياع تحت التهديد؛ وكان من عاقبة ذلك أن قُتل ابنه كما يشير المؤرخون، فهدَّته الفاجعة، وظل يبكي على ابنه حتى فقد بصره، وتوفي بعده بثلاث سنوات.

مدعي النبوة
ومن الحوادث في أيامه: أن في أوائل رمضان سنة سبع وأربعين ومائة وألف ، ظهر بالجامع الأزهر رجل تكروري وادعى النبوة، فأحضروه بين يدي الشيخ أحمد العماوي فسأله عن حاله فأخبره أنه كان في شربين فنزل عليه جبريل وعرج به إلى السماء ليلة سبع وعشرين رجب، وأنه صلى بالملائكة ركعتين، وأذَّن له جبريل، ولما فرغ من الصلاة أعطاه جبريل ورقة وقال له: أنت نبي مرسل، فانزل وبلغ الرسالة وأظهر المعجزات، فلما سمع الشيخ كلامه قال له: «أنت مجنون؟» فقال: «لست بمجنون، وإنما أنا نبي مرسل» فأمر بضربه فضربوه وأخرجوه من الجامع.

ثم سمع به عثمان كتخدا فأحضره وسأله، فقال مثل ما قاله للشيخ العماوي، فأرسله إلى المارستان، فاجتمع عليه الناس والعامة رجالًا ونساءً، ثم أنهم أخفوه عن أعين الناس، ثم طلبه الباشا فسأله فأجابه بمثل كلامه الأول، فأمر بحبسه في العرقانة ثلاثة أيام، ثم إنه جمع العلماء في منتصف شهر رمضان وسألوه فلم يتحول عن كلامه، فأمروه بالتوبة فامتنع، وأصر على ما هو عليه، فأمر الباشا بقتله فقتلوه بحوش الديوان وهو يقول: «فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل» ثم أنزلوه وألقوه بالرميلة ثلاثة أيام.

وعمل في ذلك الشعراء أبياتًا وتواريخ، فمن ذلك قول بعضهم مواليًا:
واحد ظهر وادعى أنو نبي من حق
وانو عرج للسما وانو اجتمع بالحق
وإبليس ضلو وصدو عن طريق الحق
قم يا وزير البلد واحكم على قتله
أهل العلوم أرخوا هذا كفر بالحق.