سيد درويش.. 131 عامًا من ميلاد «المتمرد» الأب المؤسس لتيارات الموسيقى

سيد درويش
سيد درويش

كتب: رشيد غمري

لا يعد سيد درويش فنانًا مر مرور الكرام على تاريخ الفن العربي بل كان شغفه بالموسيقى وغزارة إنتاجه سببًا في استمراره كـ مُلهم وعنصرًا مهمًا من عناصر التجديد، كما أنه ارتبط بالشعب وقضايا الوطن والمجتمع.

ويعد درويش الأب المؤسس لتيارات الموسيقى والغناء في مصر الحديثة، وصاحب الدور الأكبر في تشكيل الهوية الموسيقية، والتي ألقت بظلالها على الساحة الفنية العربية.

وتعتبر إسهاماته بمثابة علامات فارقة في مسار فنون الأغنية والأوبريت والنشيد والموشح والمسرح الغنائي، كما أنه ملحن نشيدنا الوطني، وهو ما يستدعى الاحتفاء به، وتذكير المعنيين، بالإعداد لاحتفالية كبيرة، وممتدة على مدار العام بمناسبة مئوية رحيله، وهو أقل ما يليق به، وبنا كشعب، ودولة نقدر مبدعينا.

حكايات| «هاجر» 18 عاما في سجن الجسد.. و«مشرط طبيب» أعاد لها الحياة

عندما بلغ سيد درويش الحادية والثلاثين من عمره، كان قد وضع بصمته إلى الأبد على موسيقانا الشرقية، لم يكن قد حقق كامل أحلامه، إذ خطط للسفر لإيطاليا ودراسة الموسيقى الغربية، والعودة لبث روح جديدة في الموسيقى العربية، لكن كان للأقدار رأي آخر.

وفي 10 سبتمبر 1923، وبينما كان في طريقه للإسكندرية لملاقاة سعد زغلول العائد من المنفى بمظاهرة موسيقية، لقى حتفه، وهو الذي كان بالكاد قد ودع حياة الفقر، ونال الاعتراف خلال سنواته الأخيرة.

ترجع أهمية درويش إلى كونه مؤسس الثورة الموسيقية التي نحت الموسيقى العثمانلية عن عرشها، وأسست للموسيقى المصرية كما نعرفها، وكل الأجيال التالية عليه من تلميذه محمد عبدالوهاب، وحتى الآن مدينون للمسار الذي حفره بعبقريته الفطرية، وموهبته الفريدة.

ظاهرة استثنائية

في كتابه «سيد درويش والموسيقى العربية الجديدة» وصف الكاتب الأمريكي إدوارد لويس، سيد درويش بأنه كان غريباً، ومتطرفا كالعصر الذي ولد فيه والشعب الذي انبثق عنه، ويعتبر سيرة حياته، وظروفه، وما أنجزه للموسيقى العربية بمثابة معجزة، تليق بعصره وشعبه.

ويتحدث الكاتب الأمريكي كيف كان لدرويش طريقة في اكتشاب موسيقى بلاده روحًا جديدة، مكنتها من أن تصبح أداة فعالة للتعبير عما يشعر به الإنسان من عواطف وانفعالات. 

وقد ربط بذكاء بين الإنجاز العملاق الذي قام به درويش خلال عمره القصير، وظاهرة أخرى تتعلق بمصطفى كامل الذى قاد فى فترة سابقة بقليل حزبا سياسيا، وهو في الثامنة عشرة من عمره، وسافر إلى فرنسا لطرح قضية بلاده. وهو الآخر مات مبكرا فى الرابعة والثلاثين. كما ربط هذا وذاك بالانقلاب الجريء الذى أحدثه قبل ذلك الشيخ محمد عبده على صعيد الفكر الديني، ليعطينا لمحة عن طبيعة الحقبة التى نشأ فيها درويش. 

«باتمان الشرقية».. حكاية 3 سيارات بروح الصناعة المحلية| فيديو

وبالإضافة للخلفية العامة، اهتم الكاتب بالخلفية الأسرية والشخصية، ودخول الصبى الذى سيغير مسار موسيقى بلاده إلى المعهد الديني، وخروجه منه، ثم زواجه المبكر فى عمر السادسة عشرة، والتعقيدات المتتالية التى اكتنفت حياته.

معاناة وإبداع

كانت حياة درويش سلسلة من الإحباطات. وكما جاء فى كتاب «سيد درويش 75 عاما من الخلود» تأليف حسن البحر درويش، فقد اضطر الفنان للقيام بأعمال شاقة فى مجال البناء وغيرها لكسب رزق أسرته، خصوصا بعد وفاة والده، وكان يقوم بالغناء لزملائه لتشجيعهم على العمل. 

وقد تعرف بالصدفة على من اقتنعوا بموهبته، وأخذوه إلى بلاد الشام، ليقوم بالغناء بين فصول المسرحيات هناك. وكان لذلك أثر كبير عليه حيث تعلم العزف على العود، وأصغى السمع لمزيد من الألوان الموسيقية الأصيلة. ويشير الكتاب إلى الاعتداد بالنفس، والكفاح المتواصل، وأيضا الحرب التى شنت عليه، واستمرت حتى بعد وفاته، بسبب حسه الوطني، وجرأته فى التمرد، ليس فقط على قواعد الموسيقى السائدة فى عصره، ولكن على الكثير من المفاهيم، والقيم، والرموز السلطوية، وعلى رأسها الاحتلال.

وكما ذكرت إيزيس فتح الله فى كتابها «موسوعة أعلام الموسيقى العربية: سيد درويش» فقد عاد درويش من بلاد الشام، محملا بشحنة قوية، دفعته لأن يغادر الإسكندرية إلى القاهرة، حيث غنى فى بعض الصالات والمقاهى والبارات كما كان يفعل فى الإسكندرية، حتى التقى بجورج أبيض، والذى أخذه إلى المسرح. 

المتمرد

"التمرد" هو عنوان شخصية سيد درويش، كما رصدها محمود الحفنى فى كتابه «سيد درويش وآثار عبقريته»، فالشاب الذى عانى الفقر والمشكلات بينما كان يغنى فى المقاهى والبارات، أصر على أن يستكمل تخته الموسيقي، وبدأ فى تقديم إبداعه الخاص، مشتبكا مع كل ما يحيط به، من احتلال، ومظاهر للظلم الاجتماعي، ومختلف القضايا الوطنية والإنسانية. 

ونظرًا لوحدة الخلفية التاريخية، فإن المقدمة التاريخية والاجتماعية التى وضعها الكاتب الراحل صلاح عيسى فى كتابه «رجال ريا وسكينة» تصلح لأن نشاهد من خلالها خلفية سيد درويش أيضا، حيث يتحدث عن أحياء الإسكندرية الشعبية فى الفترة نفسها. والكتاب يظهر تدنى الأوضاع المعيشية، وقسوة الاحتلال، واستغلاله للمصريين فى الحرب العالمية الأولى التى لم يكونوا طرفا فيها. 

هذا الأمر أصاب المجتمع بتدهور حاد على المستوى القيمى واختلال المعايير، بسبب الفقر الشديد، ما أدى إلى انفجار ثورة 19 بهذا الشكل. 

ومن المفارقات أن الخلفية نفسها التى فسر بها عيسى ظهور النمط الإجرامى الاستثنائى لعصابة ريا وسكينة، تصلح لأن نرى من خلالها ظاهرة إبداعية استثنائية مثل سيد درويش. ولا عجب، فهى الظروف نفسها التى كانت بمثابة تحد هائل، فجر فى المصريين المغلوبين على أمرهم حسا وطنيا غير مسبوق، ورغبة فى التحرر والنهوض، انبثق عنها شرارة الإبداع فى كل المجالات. 

وأظهر الشعب المصري كالمعتاد قدرة فائقة على تحويل المحن إلى عطاء حضاري وإنساني فريد، وكأنه لا ينهض إلا عند استفحال الأزمات، ليعيد ولادة نفسه بصورة مبهرة.
بساطة  وتعبيرية

بعد رحيله بعامين كتب عباس العقاد مقالا عن سيد درويش، واصفا إياه بإمام الملحنين ونابغة الموسيقى المفرد لهذا الزمان.

وقال إنه كان يبدع اللحن فينتشر على ألسنة البسطاء والعامة خلال أيام. وهو أمر ليس بقليل إذ رجل فرد يمنح أمة بأكملها ما يحييها. 

وندد العقاد بتجاهل ذكرى درويش الراحل، وبعدم مشاركة الحكومة فى تشييعه قبل عامين، ووصفه بالرجل الاستثنائى وطليعة مدرسة لم يسبقه إليها غيره، ولا يوازيه أحد من مبدعى عصره. 

وذكر أن فضله يرجع إلى أنه أدخل عنصرى الحياة والبساطة إلى الموسيقى المصرية. وجعل الألحان مناسبة للكلمات، ومعبرة عن الحالة النفسية. كما وصف الغناء قبله بأنه كان لغوا، لا مطابقة فيه بين الكلمات واللحن. 

وذكر أيضا أنه كان غيورا على فنه، إذ سمع فى إحدى الليالى فرقة تشدو بأحد ألحانه، محرفة إياه، فجن جنونه، وأخذ يصيح بهم حتى أغمى عليه. 

الحس الشعبي

استمر سيد درويش فى التلحين لعدد من الفرق الرائجة مطلع العشرينيات، وهو ما ساعده على تفتح موهبته. 

وكان لقاؤه ببديع خيرى نقطة تحول، إذ أبدعا معا أعمالا عبرت عن رجل الشارع فى بساطة، وبأسلوب جديد. ولم يخل كل ذلك من هم سياسى عكس الكثير من الأحداث الجارية وقتها وكان يصغى إلى نداءات الحمالين، والباعة فى جزيرة بدران وبولاق، وأحيانا يتبعهم، ليحصل على نغمة، وأحيانا مذهبا، يأخذه إلى بديع خيري، ليصيغا عملا جديدا. 

وكان بعض الباعة من أصول ريفية وصعيدية ومحملين بتراث قديم، غير معترف به على المستوى العام والرسمي. وسرعان ما حقق النجاح، وتحسنت أحواله المادية، وقرر أن يقيم فرقته الخاصة، والتى قدمت «العشرة الطيبة» لمحمود تيمور، وأنفق عليها الكثير، لكنها لم تعجب الجمهور الذى كان مواليا للأتراك، بسبب ما تضمنته من سخرية منهم. وبعدها قدم «شهرزاد» لبيرم التونسى العائد من المنفى. ولحن له أغنيات وطنية مثل «اليوم يومك يا جنود»، و«أحسن جنود فى الأمم جيوشنا» وقدم بعد ذلك أكثر من عشرين أوبريتاً. وقد جوبه فى تلك الفترة بالكثير من الانتقاد من قبل المحافظين بدعوى مخالفة بعض أعماله لقيم المجتمع. 

تناقضات المبدع

الحقيقة أن درويش قدم بالفعل أعمالا لا تتفق مع السمت المحافظ المهيمن على الطبقات العليا والبرجوازية، ولكنه كان يجد صدى واسعا لدى الطبقات الشعبية، التى كان لها معاييرها الخاصة، وقادرة على تقبل الخروج على التقاليد، على الأقل من خلال الفن. 

هنا يجب أن نلفت النظر إلى حقيقة أن معظم الغناء الشعبى المتوارث، والذى كان سائدا فى الأعراس والاحتفالات فى الأوساط الشعبية والريفية وحتى الصعيدية، كان ينطوى على ألفاظ وإيحاءات شديدة الجرأة، وكانت مقبولة فى الإطار الفنى الاحتفالي. وهذا ما يفسر الانقسام حول تلك الأعمال، وفق الطبقات. 

وعموما يحب البعض أن يتعرض لمساحة من سيرة درويش تتعلق بحياته الشخصية، وبعض أعماله التى يرون أنها تنطوى على إسفاف، مثل أغانية للحشاشين والكوكايين، وغيرها. لكنه فى هذا لم يكن وحده. وربما سيصدم القارئ إذا عرف الأسماء المهمة، والتى ارتبط بعضها فى الذاكرة بأعمال وطنية رصينة وشهيرة، وفى الوقت نفسه قدموا أعمالا وصفت بالابتذال والإفراط فى الحسية. ونرى أنه يجب النظر إلى الأمر فى سياق الفترة الزمنية وطبيعة المجتمع وقتها.

على العموم فقد صارت كل أعماله تراثا جديرا بالاحتفال، وشواهد من زمن مضى، كان عنوانه اكتشاف الذات، والتحرر، والإبداع كطريق لبناء الهوية. 

ورغم رحيله المبكر ترك سيد درويش إرثا قيما، ويكفى أنه حول مجرى نهر الإبداع الموسيقى والغنائى المصرى والعربى إلى الأبد. 

ومن حسن الحظ أن تولى كوكبة من المبدعين الدفة من بعده، وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب الذى تتلمذ عليه، وتأثر به، ويكفى سيد درويش أنه ضرب المثال بأن الطريق إلى صنع الهوية هو الإبداع والتجديد. فلو أنه تمسك بالأساليب السابقة عليه، لما كان له شأن يذكر. 

وبالنظر إلى أجيال من تلاميذه، سنجد أن التجديد كان أهم ما يميزهم. هذا هو سيد درويش الذى لا يتكرر، وهذه مئوية الفنان الذى لحن نشيدنا الوطني، ويجب أن تنال ما تستحقه.