يوميات الأخبار

الضيف الدائم

السيد النجار
السيد النجار

على مدى خمسة آلاف عام.. تمتعت مصر بالاكتفاء الذاتى من القمح وصدرت الفائض لإطعام امبراطوريات العالم.. والكثير منه كان هبات، فالفراعنة هم أول من زرعوا القمح واعتبروه رمزا للحب والسلام.

تتنقل الفتاة الفرنسية بين ترابيزات الوفود على الغداء.. فراشة توزع الابتسامات مع الأطباق.. وفى كل ذهاب وإياب.. يرفع أحد أعضاء الوفد المصرى يده «عيش لو سمحتى».. مرة.. واثنتين.. وعشراً.. كل بطريقته أو لغته.. حتى بالإشارة.. بدا الاندهاش على الفتاة.. قالت جميع الوفود لم تطلب رغيفا زيادة.. فلماذا أنتم.. ومن أين.. هتف الجميع فى صوت واحد وبفخر «إيجيبت».. هزت رأسها.. فهمت.. أعرف أن المصريين يأكلون كميات كبيرة من الخبز.. فهى طالبة جامعية متطوعة للعمل بالمؤتمر الدولى للمصريات.. ابتسمت وانطلقت لإحضار مزيد من العيش.. اقتحمت رأسى تساؤلات لم تترك لى فرصة لأى طعام.. ترى.. هل تعلم هذه الفتاة.. لماذا استهلاكنا الكبير من العيش.. هل تعلم أننا لا نزرع ما يكفينا من الطعام، ونحن من علم العالم الزراعة والحضارة.. وبفخر ولكن للأجداد.. وهل.. وهل.. انتهى وقت الغداء والتساؤلات حائرة.. وتتدفق خواطر شريط الذكريات من المواقف.. والوقائع.. والتصريحات.. عن القمح وأزماته.. ومع واقعه وأحواله.

فى عام 1965.. جمال عبدالناصر يدق ترابيزة اجتماعات مجلس الوزراء صارخا.. أمريكا تشن علينا حرب تجويع للشعب المصرى.. ترفض إمدادنا بالقمح حسب قانونهم الذى يسمح بتصدير القمح بتيسيرات كبيرة للدول المحتاجة.. وهذا فخ علينا ألا نقع فيه ولا نعرض أنفسنا له بعد ذلك مهما كانت الظروف.. لا نريد قمحا منهم إذا كان طلبنا سوف يستخدم لتطويع مواقفنا والمساس بسيادة مصر.

هل ارتعدت الحكومة من الزعيم..؟ أو انتفضت لإنقاذ الموقف.. هل بدرت أرض مصر قمحا.. ولو على سبيل الكيد لأمريكا.. هل وضعت خطة عاجلة أو حتى طويلة الأجل.. محددة الهدف والزمن لتحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح.. هل تابع عبدالناصر ماذا حدث..؟؟ أبدا.. موقف وانفض.. لا شيء نهائيا.. وانحصر تفكير الحكومة فى طلب المساعدة أو الاستيراد من الدول الأخرى.. ولكن بالطبع بأسعار أعلى. ذهبت وفود.. وعادت وفود.. ولم يتزحزح الموقف الأمريكى.. لا توريد قمح لكم.. إلا إذا.. وكانت جميعها شروطا قاسية، منها تخفيض إنتاج القطن المصرى المنافس الأقوى للقطن الأمريكى «حينذاك بالطبع».

لجأت مصر إلى الاتحاد السوفيتى لطلب معونة عاجلة من القمح وكان هنا الموقف السوفيتى الثانى.. بعد المرة الأولى التى لم نستفد من دروسها.. يقول السادات فى مذكراته.. بعد انسحاب العدوان الثلاثى عام 1956. برزت عندنا مشكلة صارخة عاجلة.. نحن فى حاجة سريعة للقمح.. كان الحصار علينا شديدا خانقا.. على أعناقنا وبطوننا.. وبادر الاتحاد السوفيتى وأعطانا القمح.

ومات عبدالناصر واستمر انخفاض الإنتاج وزيادة الاستهلاك والاستيراد.

السادات كان شاهدا على أزمات القمح فى عصر عبدالناصر، والمفروض شريكا فى الحكم.. وبعد أن تولى رئاسة مصر.. يقول منتقدا فى مذكراته.. عام 63 أهدى السوفيت مصر مزرعة على مساحة 700 ألف فدان بمدرية التحرير بتكلفة 70 مليون جنيه «منذ 60 عاما».. ومعدة بتكنولوجيا زراعية حديثة تضاعف الإنتاج 5 مرات. وظلت بورا حتى عام1975. ويستنكر السادات.. لو تمت زراعتها لكانت حلت مشكلة مصر من الطعام.. لا نملك غير أن نقابل استنكار السادات باندهاش شديد.. فبعد 12 عاما، عندما قرر السادات زراعتها، وزعها على شركات الاستثمار الخاصة.. فلماذا لم تزرعها الدولة.. ولم لا تكون قمحا..؟!

ومات السادات.. واستمر ارتفاع استيراد القمح وانخفاض الإنتاج..

ولم يكن الأمر أفضل حالا، فى عهد مبارك.. سواء فى بدايته أو نهايته.. كانت أول أزمة تواجهه سياسية وذات انعكاسات مباشرة على القمح.. وكانت أيضا مع أمريكا− وفى أعقابها بشهورأعلنت الحكومة على لسان وزير الزراعة يوسف والى أن مصر تستحق الاكتفاء الذاتى من القمح خلال 4 سنوات. ومرت 20 سنة وليس أربعاً ولم يتحقق سوى الانخفاض فى الإنتاج 2 مليون طن؟!

ورحل مبارك.. واستمر ارتفاع الاستيراد وانخفاض الإنتاج.. وللمرة الثالثة وبدون إزعاج مقارنات الأرقام.. فالحقيقة كاشفة.. صادمة.. أصبحنا الدولة الأولى عالميا فى استيراد القمح. ويتوالى مسلسل أزمات القمح مع الحرب الروسية الأوكرانية ولكن هذه المرة فى العالم كله.. وبالطبع مصر منها فى المقدمة.

على مدى خمسة آلاف عام وحتى عام 1952.. تمتعت مصربا الأكتفاء الذاتى من القمح. وصدرت الفائض، لإطعام أمبراطوريات العالم. والكثيرمنه كان مساعدات وهبات. فمصر الفرعونية هى أول من زرعت القمح وأعتبره المصرى القديم رمزا للحب والسلام. وتمر العصور والسنون.. والفلاح المصرى فى هناء.. يغنى للقطن والقمح.. العيش كما ينفرد المصريون بتسميته دون شعوب العرب.. فلاحياة بدونه.. «عشان تعيش لازم عيش».

الغريب.. على مدى عقود السبعين عاما الأخيرة.. كان لدى الجميع إدراك بأهمية قضية القمح، بل بخطورتها،.. هى.. قضية أمن قومى لطعام الشعب.. هى.. مساس بالسيادة المصرية وممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية لتطويع مواقفها وقراراتها.. هى.. قضية جوهرية فى الإصلاح الاقتصادى والمالى للدولة، بتقليل الاستيراد لتوفير مليارات الدولارات.. وزيادة الصادرات وتحقيق عائدات ضخمة من العملات الصعبة.

نحن نسعى بجدية لمواجهة أزمة القمح.. العيش.. الضيف الدائم فى جميع وجبات الأسرة المصرية.. نعم.. أصبح ضيفاً عزيزاً غاليا.. ولكننا لا نستطيع الاستغناء عنه..

اليوم.. نحن نستطيع.. ليس فى القمح فقط. وإنما فى جميع المحاصيل الاستراتيجية.. قطن .. أرز.. عدس.. فول.. محاصيل الزيوت والسكر.

أم كلثوم بالعبرى

لم يفاجئنى احتفاء إسرائيل، أكثرمن دول عربية باختيار أم كلثوم واحدة من أهم مطربى التاريخ.. هذه عادتهم معها.. فبعد أن سرقوا الأهرامات ونجحت حملاتهم الدعائية فى إقناع كثيرمن شعوب العالم بأن أجدادهم اليهود فى مصر هم الذين بنوها.. وبعد أن سجلوا فى اليونسكو أن «الطعمية» من الأكلات الشعبية الإسرائيلية، فليس ببعيد أنهم يدبرون للشيء نفسه مع أم كلثوم.. أو أنها تنحدر فى الأصل إلى أحد الأسباط أجدادهم. هم يروجون الآن أن مكتشف أم كلثوم موسيقى يهودى «ليتو باروخ». وليس أبوالعلا محمد وزكريا أحمد.. وعلى مدى السنوات الماضية تعددت مظاهر احتفاء إسرائيل بأم كلثوم.. أعدوا عنها فيلما وثائقيا، قدموا حياتها فى عرض مسرحى بالقدس، وقدموه أيضا على مسرح بباريس.. ولايدرى أحد ماذا قالوا فيه من افتراءات وأكاذيب.. وأطلقوا اسمها على شارع بالقدس. ومن آن لآخر يقدمون فى حفلاتهم أغانى أم كلثوم لمطربين إسرائيليين..و بالتأكيد يقدمون أم كلثوم النسخة العبرى حسب أهوائهم. كما يحتفلون بذكراها سنويا.. ومازالوا حتى اليوم تقدم إذاعة صوت إسرائيل منذ نشأتها أغنيتين يوميا فى ساعات المساء.. والسهرة.. والموسف أن هذه الإذاعة الناطقة بالعربية مسموعة جيدا بجميع محافظات القناة والدلتا أقوى من إرسال كثيرمن الإذاعات المصرية؟! وهى بالطبع مسموعة بالقاهرة.
هنا لندن

من منا يستطيع أن ينسى دقات «بيج بن»..وأصوات المذيعين المميزة.. هنا لندن.. القسم العربى بالإذاعة البريطانية بي− بى سى.. هى محفورة فى ذاكرتنا ونفوسنا وعقولنا.. أمضينا عمرنا.. نحرك مؤشر الراديو بحثا عنها لمعرفة الحقيقة.. بالنسبة لى كان مؤشر الراديو ثابتا دائما على المحطة.. مع أى حدث يبحث الجميع عنها لمعرفة الحقيقة ومصداقية أى خبر. والاستمتاع بباقى برامجها المميزة وأصوات المذيعين المحببين إلى النفس، وأدائهم الإعلامى التلقائى والراقى. الخبر الوحيد الذى رفض عقلى تصديقه من راديو لندن، «بى بى سي» ما تم إذاعته فى الواحدة ظهر.. الجمعة 27 يناير الماضى.. توقف الإذاعة عن البث بعد 85 عاما من انطلاقها. هل «عجزت» وتريد أن تجدد شبابها بالبث عبر منصات الإنترنت..لانريد.. فهى بالمصداقية والحقيقة وبرامجها المتنوعة.. تزداد جمالا ورونقا وتطورا كلما كبرت فى السن.. هل تعانى ضائقة مالية.. نستطيع مساعدتها باكتتاب هدية.. نعمل لها جمعية «بالمصري».. المهم ألا تصمت..إلا تختفى مهما كانت الأسباب.. حتى لو تاه كثير من مستمعى الراديو فى فوضى التواصل الاجتماعى وألانترنت.. أنا منحاز للفلاح الفصيح فى قريتنا الذى كان يستمع إلى إذاعته المفضلة بي. بي. سى وهو راكب حماره والترانزستور بيده على أذنه.. اختفاء هذه الإذاعة العريقة.. خبر محزن.. صادم لم يتوقعه المستمع العربى.. هى لحظة توقف فيها التاريخ.

همس النفس

كلماتى فيها هلاكى.. إذا علم الحسود من الحبيب يكون.. ولكنى لا أخاف الردى.. فما الكلمات إلا سر الخلود. منايا الدهر تغدو وتروح.. وحبى سيبقى أبد الزمان سرا به لا أبوح.. فأقبلى متهللة لتسعدى قلباً أشتاق للضحكة والأفراح.. قلب تسكنه الأحزان.. وحياة كل من فيها سواك أشباح.