فن لا يعرف أسراره إلا الموهوبون

هؤلاء حولوا «الخردة» إلى «شربات»

تمثال حورس للفنان إبراهيم صلاح
تمثال حورس للفنان إبراهيم صلاح

الخردة.. مصطلح واسع يشمل جميع النفايات وبقايا الحديد التى يتم إعادة تدويرها واستخدامها فى مختلف الصناعات، لكن هل خطر على بالك يوما أن هذه الخردة «فن» لا يعلم قيمته إلا الموهوبون الذين يرون أنه كنز بيئى يمكن استغلاله لإنتاج قطع فنية رائعة؟!. تشكيل الخردة فن عالمى يُعرف منذ القدم، فمنحوتاته تزين مداخل العمارات والهيئات والمطارات فى كثير من دول العالم، لكنه للأسف مازال حقه مهدورًا فى مصر ولم يحقق سوى جزء بسيط من نجاحه.. فى هذا التحقيق التقت «آخرساعة» بعض الفنانين المصريين الذى يعملون بـ«فن الخردة» ليرووا حكاياتهم معه ويتحدثون عن الصعوبات التى تواجههم وما يسعون لتحقيقه حتى تصل أعمالهم للعالمية.

الفنان الراحل صلاح عبدالكريم، أول من عمل بفن الخردة فى مصر، فهو نحّات متخصص فى ديكورات الحديد، ويعد رائداً فى فن تشكيل الحديد الخردة وأحد فرسانه على مستوى العالم. وُلد عبدالكريم عام 1925، وفى عام 1943 التحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة وتخصص فى الفنون الزخرفية، وكان مجتهداً ومتفوقاً إلى أن تخرج بدرجة الامتياز مع مرتبة الشرف، وقد دفعه تفوقه ليتبوأ مكانته الطبيعية كمعلم للفنون بالكلية، ثم تفتحت أمامه أبواب النجاح على مصراعيها فذهب إلى فرنسا وإيطاليا فى بعثة دراسية لاستكمال دراسته فى فنون التصميم والديكور المسرحى والسينمائى، وزادت خبرته فى مجال تصميم الأثاث والعمارة الداخلية، وانتشرت تصاميمه فى مصر وخارجها حتى أصبح أحد أعلام الديكور.

وقد عمل الفنان المبدع على البحث عن كميات الحديد الخردة من بواقى المصانع والمقاولين وغيرهم، فذهب لوكالة البلح وكان ينظر لمخلفات الحديد الخردة كأنها أشلاء من كائنات حية كانت منذ لحظات تؤدى دوراً فى غاية الأهمية بحياة الإنسان ثم أصابتها الشيخوخة، فكان ينظر لأكوام الحديد الخردة نظرة تشريحية، حيث يرى فى إحداها أرجلًا لحيوان أو أذرع إنسان أو جسم ديك، فهناك التروس ومحاور إطارات السيارات، وخزانات الوقود والأسلاك والصواميل.. وفى النهاية لم يكن الحديد معروفا فى مصر كخامة نحتية إلى أن أدخلها عبدالكريم، وبالطبع أثار عمله العديد من المناقشات واختلاف وجهات النظر، لكنه استطاع أن يثبت نجاحه للعالم أجمع.                                                          أعمال الفنان عزت حامد

المرأة الحديدية
أمنية هلال.. فنانة من نوع خاص، هوايتها هى من تتحكم بها، فلم تدرس فن النحت يوما لكن موهبتها الفطرية جعلتها تصل لنسب القياسات والمعايير بدقة شديدة: «كنت أغمض عينى وأرى التصميم كاملا أمامى لأقوم بتنفيذه كما هو ويصبح قطعة فنية رائعة».

بدأت حكاية أمنية منذ الصغر، فكانت تهوى الرسم والنحت، وتجد متعتها عندما ترسم أو تصمم أى عمل فنى نابع من داخلها، وكان يخبرها والدها رحمه الله أنها مشروع فنانة، فبدأت تطور نفسها، ومرت بمراحل عديدة قبل أن تتجه لفن الخردة، فكانت تنحت على الرمال وتصنع مجسمات منها وتصنع مجسمات من الطين الأسوانى والجبس، ثم النحت المباشر على الأحجار، واستخدمت السلك المجلفن الذى كان بداية الخيط للعمل فى الخردة، وذلك بعد أن صنعت أول تمثال من الحديد ثم عرضته على أحد الفنانين التشكيليين فأبدى إعجابه الشديد به ونصحها بالاستمرار، فتنوعت فى أعمال الحديد وأقامت أول معرض لأعمالها بعنوان «همس الحديد»، ضم 25 قطعة من الحديد و5 قطع من السلك، وكان إعجاب الموجودين ومنهم الفنانون بأعمالها الدافع وراء الاستمرار والتحدى لتصبح هى المرأة الحديدية.

وأشارت إلى أنها تواجه صعوبات عِدة خاصة أنها زوجة وأم لثلاثة أبناء، والنحت على الحديد يستغرق منها وقتًا طويلًا ومجهودًا فى الذهاب إلى ورش الحدادة وبائعى الخردة لتنفيذ أفكارها، لافتة إلى أن زوجها الذى يعمل مهندس ميكانيكا يأتى لها ببعض الخردة لكن النسبة الأكبر تشتريها على نفقتها الشخصية، وفى النهاية عليها أن تصمم التمثال من القطع المتاحة لديها فقط ولا يوجد أمامها رفاهية اختيار قطع خردة بعينها لأن ذلك يكلفها أموالا باهظة، موضحة أن التمثال الواحد ذا الحجم المتوسط يتجاوز ثمنه 5 آلاف جنيه.. وتوالت النجاحات.
لكنها مازالت ترى أن هذه الأعمال مخصصة لفئة معينة أو شركات بعينها ولا يوجد وعى كاف بأهمية هذا الفن لجميع الطبقات، لذا فالمكسب غير متاح دائما وإنما قد يأتى من حين لآخر، لذا تتمنى أمنية وجود معرض دائم لـ«فن الخردة» ووجود رعــــاة لتســويق الأعمـــال، متمــــنيــة أن تصـــل أعمـــالهـا للعالمية.

إبراز الهوية المصرية
أما إبراهيم صلاح فهو فنان شامل استطاع أن يحفر اسمه فى عالم إعادة تدوير الخردة، بدأ عمله بإنتاج مجسمات فنية من مختلف الخامات كالفايبر والأسمنت والجبس لعرضها للبيع فى بعض مكاتب الديكور، حتى وجد أنه تعامل مع جميع الخامات لمدة تصل إلى 7 سنوات عدا خامة الحديد، فاتجه لها وبدأ بتحويل مواسير السباكة لأباجورات ديكورية، ثم بحث عن مزيد من الأفكار على الإنترنت ودرس أنواع الحديد جيدا حتى أصبح على دراية كاملة بفن الخردة، لكنه قرر أن يتخذ خطا محددا له هو إبراز الهوية المصرية فى جميع تصميماته، فنفذ تمثال حورس من الخردة الصاج بارتفاع 6.5 متر ليصبح فى المدخل الرئيسى لاستراحة واحة عمر على طريق مصر إسكندرية الصحراوى، يليه تمثال للملكة كليوباترا وتوالت الأعمال الفنية وزاد معها الطلب على أشكال بعينها خاصة بعد نشر أعماله على صفحات السوشيال ميديا ولاقت المزيد من الإعجاب.

هنا قرر أن يكون له مكان وورشة خاصة به ليمارس عمله الحر وينتج بنفسه بدون التردد على ورش الحدادة والتى كانت تستنفد طاقته وأمواله، ومن الأعمال الأخرى التى قدمها هو مجسم تاكسى إسكندرية بارتفاع 7 أمتار ليوضع بأحد المحلات التجارية الكبرى بالمحافظـــة، حــــتى إطــــــارات الســـــيارات الخـــــردة قـــرر إعـــادة تدويرهـــا بشــكل مختلـــف ونحـــت منــــها تمثال الغوريلا.
وأوضح صـــلاح أن العمـــل الفـــــنى كبير الحجم يستغرق وقتا طويلا حتى يخرج للنور، فكان فى البداية يستغرق فترة تتراوح بين 3 و4 شهور لكن الآن بعد احترافه الصنعة أصبح بإمكانه الانتهاء منه فى 40 يوما فقط، كل ما عليه هو تحديد شكل التمثال والأبعاد وتجميع خامة الحديد المناسبة ثم يأتى التنفيذ، لافتا إلى أنه استخدم خلال 3 سنوات حوالى 3 أطنان من مخلفات الحديد، داعيا لضرورة نشر الوعى بأهمية إعادة تدوير الخردة وصنع أعمال فنية تزين الشوارع والميادين العامة وتسهم فى الحفاظ على البيئة.

خردة المنازل
أما الفنان عزت حامد فيعمل فى مجال إعادة تدوير الخردة منذ عام 2011، وبدأت تجربته من حُبه لتجميع الخردة وعدم التخلص منها مطلقا سواء كانت من أدوات المطبخ أو المنزل أو من ورشته الخاصة بكهرباء السيارات حتى التى يراها مع بائعى الروبابيكيا، فهو يرى بعينه ما لا يراه الآخرون وكان يتأكد من أن هذه الأدوات يمكن أن تتحول لشيء فنى ذات يوم.  

حاول مرة أن يجمع كل الخردة المتاحة لديه وبدأ فى تشكيلها معا ووجد نفسه يُخرج قطعة ديكورية تزين منزله، ونالت إعجاب كل من يراها من الأقارب والأصدقاء ما جعلهم يجمعون الأشياء القديمة فى منازلهم ويأتون بها ليصنع لهم منهم قطعا فنية. قرر حامد أن يعرف مدى تمكنه من هذا الفن ومعرفة آراء الفنانين التشكيليين به، فاشترك فى أحد المعارض ليعرض جميع أعماله به ولاقت استحسان الجميع. بعدها أصبح الأمر بالنسبة له عشقا حقيقيا لا يستطيع الاستغناء عنه بل أصبح هو العمل الذى يشعره بالسعادة ويكون سببا فى تفريغ طاقته، حتى أصبح شغله الشاغل الآن هو حفر اسمه ضمن فنانى الخردة بعيدا عن الربح الذى لا يعد دائما لتباعد الفترات بين الطلب والشراء، كما أنه يتمنى إنشاء مدرسة لتعليم هذا الفن فى مصر للأطفال، لما له من أهمية فى القضاء على مخلفات البيئة وتوفير فرص عمل للكثير.

الخردة فن أم تشكيل؟
من جانبها، ترى الفنانة فيفيان البتانونى، مدير عام إدارة الفنون التشكيلية والحرف البيئية بالهيئة العامة لقصور الثقافة، أن اختيار مصطلح «فن» على تشكيل أعمال الخردة أمر غير صحيح، وذلك لأن فن الخردة لا يعد فنا قائما بذاته إنما هو تقنية من تقنيات التشكيل لإنتاج العمل الفنى يُعتمد فيه على إعادة التدوير وتجميع نفايات الحديد باعتباره خامة يمكن التعامل معها وإخراج قطع فنية منها، وقد ظهرت هذه التقنية بعد الحرب العالمية الثانية ووجود قطع خردة لا حصر لها من بقايا الحروب، فعمل فنانو العصر الحديث على تجميع هذه الخامات فقط وليس تشكيلها كما يحدث مع بقية الفنون الأخرى كالنحت على الأحجار أو تشكيل الطين وغيرهم، وذلك لإثبات أن الفنون كما تعبر عن الجمال يمكنها أيضا التعبير عن الُقبح ـ أى ما أحدثته الحروب من دمار ـ بالإضافة إلى أن الأعمال من الحديد إنتاجها أسهل وأسرع وبدون تكلفة مادية تذكر لأن الخامات مهملة ومتوافرة بكثرة، لذا فهى ترى أن فنان الخردة مظلوم فى التصنيف بهذه التقنية فقط وإنما لابد التأكد من أنه فنان شامل يستطيع التعامل مع مختلف أنواع النحت.

وأضافت أن التقنية أثبتت وجودها منذ عام 1950 واهتمام وزارة الثقافة بهذه التقنية كان سببا فى تنظيم عدة ملتقيات لفنانى الخردة فى مختلف المحافظات التى تعرضت للحروب بالفعل وكان يوجد بها العديد من الخردة والنفايات، وذلك لتوضيح مفهوم هذه التقنية وتنفيذ أعمال فنية متنوعة وتماثيل لا يقل ارتفاعها عن 2 متر وقد تصل إلى 5 أمتار، علما بأن الأمر لا يقتصر على الوزارة فقط وإنما كليات الفنون الجميلة تدُرس أصول الفن فقط وتوضح أسس التعامل مع تفاصيل المواد الخام والمعادن، فيتم تعليم طرق تطويع الحديد واللحام وكيفية التفريق بين الأنواع المختلفة والنسب الحقيقية والافتراضية بينما تنفيذ الشكل النهائى يُترك للخيال والإبداع.

اقرأ أيضا: فنان تشكيلي يصنع نماذج من الآثار الفرعونية من الخردة