«زوجـتك نفسي».. قصة لـ هدى حافظ

هدي حافظ
هدي حافظ

منذ وجَّه الكاتب الصحفى الكبير خالد ميرى، رئيس التحرير، بنشر إبداعات المتميزين ونصوص الشباب الناضجة، والقصائد والقصص تنهمر على بريدنا سواء التقليدى أو الإلكترونى، ونحن نُرحِّب بها جميعًا، ونعد بنشر المتميز منها فى أقرب فرصة، وهذا الأسبوع ننشر قصة للأديبة هدى حافظ.

فى سرعة جنونية تسابق الهواء، تقطع المسافة وصولًا إلى طريق طويل غامض، العجلات تدور دوران الرياح مع عقارب الساعة، لا أكاد أرى العالم الخارجى عبر النافذة إلا ومضةً، التفاف مقود السيارة بين يديها دفعنى لسؤالها إلى أين؟.

ولكن الإجابة جاءت مقتضبةً سريعةً، ستعرفين، بعد قوة الكبح اللازمة، توقفت على نحو مفاجئ كالعربة التى تجرها الخيول، مع دقات الساعة الثانية عشرة فتحت بوابة القاعة، أشارت صديقتى بيديها كى أتبعها عبر ممر طويل، فوجئت به أمامى بين الحلم والحقيقة، الأمير الغائب يعود والأميرة ذات الحذاء المفقود يلتقيان لتكتمل أحداث الحكاية.

وبرغم شراسة الحنين الجامح الطاغى الذى استشرى بدمى، تأرجحت مشاعرى ما بين الإحجام والإقدام، سطَا سطوة العاشق وتسللت أصابعه إلى محيط خصرى أكثر الأماكن احتلالاً فى جسد امرأة، قاومت حتى تحررت جزئياً.

وبين عينيه قوس ورمح رشق القلب بسهام تصيب ولا تُخطئ، هممت بسؤاله: لماذا عُدت؟، انقضى العهد وانقطع الخيط الواهن الذى يربط قلبينا، اندفع نحوى على الفور، بقوة جاذبية اختل معها توازنى، وهتف غاضبًا:ضعى ما فى حقيبتك على الطاولة.

ولم يتمالك غضبه مُرددًا أين الورقة؟، كيف الفرار هرباً؟، أو كيف الهروب وكل الطرق تؤدى إليه؟، هل فكّر وهو يَنْبُش بالماضى ليصحو السر الدفين الذى أخفيناه معاً حجم ما سنعانيه؟، ولأننا شركاء فى الألم، نتقاسم الحياة فى جسد واحد، كان الانفصال والاتصال أشبه بخروج الروح وعودتها.

وللأنك تسمع حتى الصوت الذى أحدث به نفسى، احتضنِ لأغفر لك زلات الماضى، يا من قرأت رسائلك بالحبر السرى من يفك شفرة لغة حروفها صامتة، خرج عن صمته قائلًا: أجيبينى أين الورقة، بينما أنتِ تنطفئين، كنت أنا أحترق، كنتِ صامدة كالصخرة وقابلة للتفتت والانشقاق، كنت عاجزًا أمام تحولات شخصيتك.

 

وما زلت أتسائل أين الورقة التى كتبناها بأيادٍ خائفة مرتعشة، نصرخ فى وجه العالم الذى رآنا مجرد مراهقين لم تنضج مشاعرهما لاتخاذ قرار مصيرى، قوبلت محاولاتنا بالرفض والسخرية من الجميع، لكن لا تعرفين كيف لصبى عاجز أن ينجرف وراء مشاعره حتى يعرض الزواج فى صيغة سؤال مُشبع بالبراءة والسذاجة.

زوجينى نفسك لأتلقى إجابة فورية وأنا قبلت زواجك، أما الآن كل ما بحوزتى ورقة عرفية مُحيت حروفها بفعل الزمن، لكن كل ما أمتلكه فيكِ حقًا لا ينازعنى فيه أحد، تعمدت أنا مقاطعته بعد أن غيّر مسار الحديث.

ولم أعد المرأة المُشتهاة حُلم الماضى التى تبارز العالم بأنوثتها ، كنت قلباً نابضاً مفعماً بالحياة، كنت أشتهيك بكل حروف الهجاء التى عرفتها البشرية، ومضى الوقت وانقضت الرغبة، وخفت وهج الحلم، فالخذلان والتخلى يسلبان من الروح عُلُوّهَا.

ويبعثان فى النفس انكساراً ويجعلان من الجسد حطاماً، ما تبحث عنه صور من الماضى، كان قلبى باتساع الأرض مُمهدًا لخطاك، لكنك عشت كما لاجئ غريب حبيبتك، وطنك الضائع، جئت لاسترداد بقايا جسد أوشك على انتهاء صلاحيته، الورقة التى تخشين ضياعها الآن كانت بالأمس خطيئتك الكبرى.

وأتذكر حين قلت غاضباً مُغادراً عالمى، عود ثقاب واحد كافٍ للتخلص من هذه الورقة، وباحتراقها احترق الماضى والحاضر والذكرى، أخفيت الورقة ما بين الضلوع وبين ألسنة اللهب وألسنة الناس.

وحتى صارت رماداً، عرفتك منذ طهر الطفولة إلى نزق الشباب، لم تكافح للبقاء من أجلى، ولست محارباً قديماً لتصمد طويلاً أمام معركة الحب الأبدى، وبينما أدير ظهرى لأغادر المكان، أطبق بذراعيه حولى، احتضننى بضلع من أضلاع مثلث برمودا الذى تسقط فيه الأشياء ولا تعود، سمع نداءات ترج أعماق الروح رجاً، فاستجاب وَطَوَّقَنِى بِعناق دافئ هامساً فى أذنى: قد أخسر فى الجولة الأولى، لكننى لن أترك أرض المعركة.

اقرأ ايضًا | «العدل» تُوقف مأذونًا شرعيًا عن العمل وتُحيل مساعده إلى النيابة العامة