كنوز| جنون الإنسان !

ميخائيل نعيمة
ميخائيل نعيمة

ميخائيل نعيمة

كلّ ما يعمله الإنسان رغوة فى رغوة ما دام لا يستلهم فى عمله المحبة والضمير والإيمان، وإنى لأسألك عن أثر المحبة والضمير والإيمان فى هذه المدنية.. أين هو؟

أهو فى المال؟.. فى العلم والتكنولوجيا؟.. فى آبار النفط، فى مناجم الحديد والرصاص والنحاس والفضة والذهب والألماس؟.. فى السياسة ؟.. فى الصناعة والتجارة؟

فى المدارس والكنائس والمساجد؟.. فى دور السينما والمقاهى والملاهى؟.. فى الراديو والتليفزيون؟.. فى الصحف ودور النشر على أنواعها ؟. 

فى المراكب الفضائية، والقنابل الذريّة والهيدروجينية؟.. فى أزقة المدن الصاخبة والدساكر الوادعة؟ .. فى ثكنات الجيوش، وساحات الحروب؟

فى المصحَّات والمستشفيات وبيوت المجانين؟.. فى المحاشش والمواخير؟

هذه كلُّها يا صاحبى - وإن لَبِس البعض منها المسوح، وتزيّا بزيّ القداسة، وتلفّظ باسم الحقّ والخير والجمال - قد شرّدت المحبة من الأرض، وجعلت من الضمير سلعة رخيصة، ومن الإيمان مهزلة. 

ولولا ذلك لما تمزّقت الأرض شرّ تمزيق، فما استراحت يوماً من الشحناء والبغضاء، ومن الحروب والكروب، ومن المجاعات والنكبات.

لولا ذلك لما جُنّ الناس هذا الجنون الذى نشهده فى تكالبهم على المال الذى يُفقِر ولا يُغنى، وفى تطاحنهم على السلطان الذى يُذِلّ ولا يُعِزّ، وفى تهافتهم على القصاع التى تُجيع ولا تُشبع، وفى تزاحمهم على الملذّات التى تُميت ولا تحيى. 

لولا ذلك لما انجرف الناس هذا الانجراف الجنونى بتيّار السرعة فى كلّ شىء. 

فهم يلتهمون اليوم المسافات بسرعة تفوق سرعة الصوت. 

ولو أنّهم كانوا يسرعون من البغض إلى المحبة، ومن اللا ضمير إلى الضمير، ومن اللا إيمان إلى الإيمان؛ لو أنّهم كانوا يسرعون من رغوة العيش إلى صفوة الحياة لقلنا: نِعِمّا السرعة! ولكنهم يسرعون من الرغوة إلى الرغوة. فسرعتهم رغوة فى رغوة.

رغوة كذلك هو تحايل الإنسان على الأرض ليأكل نتاجها فى أوانه وفى غير أوانه. 

فالمعروف عن الأرض أنّها تمتثل فى سلوكها للفصول، فتُنضج الحبوب فى أوانها ليأكل منها الحيوان والإنسان فى أوانها.

ولكنّ الإنسان احتال على الأرض فأخذ حبوبها وبقولها وثمارها وحفظها فى علب من الصفيح، وفى أوان من زجاج ليأكلها على مدار السنة. 

وراح يفتنّ فى تعليب مأكله ومشربه حتى ليصحّ القول فى إنسان اليوم إنّه ربيب العلبة والزجاجة، وفى مدنيته إنّها «مدنيّة المعلّبات». 

أجل.. إنّها مدنيّة تعيش فى العلبة ومن العلبة.

أفكارها معلَّبة، أذواقها معلَّبة، عواطفها معلَّبة، معتقداتها معلَّبة، تقاليدها معلَّبة، شرائعها معلَّبة، أزياؤها معلَّبة، عاداتها معلَّبة، صحّتها معلَّبة، علومها معلَّبة، فنونها معلَّبة، جمالها معلَّب، ضميرها معلَّب، إيمانها معلَّب، ووعيها معلَّب.

قد تختلف العُلَب والأوانى الزجاجية شكلاً وحجماً، ولكنّها كلّها علب من صفيح وأوانٍ من زجاج، كلُّها رغوة فى رغوة، وما لمثل هذا وُجدنا على الأرض يا ابن آدم.

من كتاب «كان ما كان»