ثلاثون عامًا من غياب مبدع «البوسطجى» و«قنديل أم هاشم»

يحيى حقى برفقة ابنته الوحيدة   نجيب محفوظ  يوسف إدريس
يحيى حقى برفقة ابنته الوحيدة نجيب محفوظ يوسف إدريس

عندما نحيى في هذا العدد الذكرى 30 لرحيل «قنديل» الأدب الذى غادرنا فى التاسع من ديسمبر 1992 محلقا بروحه في رحلة اللا عودة عن عمر يناهز 87 عاما، لابد أن نؤكد على أهمية ان نحتفى برموزنا الأدبية والفكرية والفنية والسياسية والرياضية والعلمية لأنهم أضاءوا مشعل المعرفة التي غابت عن أجيال لم تعاصرهم، والكبير يحيى حقي لا يحتاج لتقديم أو تعريف، فهو أشهر من نار على علم، يكفى أن نقول «البوسطجي - قنديل أم هاشم - سارق الكحل - فكرة فابتسامة - دماء وطين - يا ليل يا عين - أم العواجز - خليها على الله - عطر الأحباب - تعالى معي إلى الكونسير - كناسة الدكان - صحى النوم - عنتر وجولييت».. وغيرها من الكتابات الإبداعية الخالدة التي تحمل اسمه الكبير في عالم الإبداع. 


لن نضيف كثيرا عندما نسرد ملامح من سيرته الذاتية وتاريخه العائلى وعمله فى الدبلوماسية المصرية، أو المناصب الرفيعة التى تولاها، أو نيله جائزة الملك فيصل العالمية، أو تكريمه من الحكومة الفرنسية بوسام فارس من الطبقة الأولى، وتسلمه لجائزة الدولة التقديرية فى الأدب من الرئيس جمال عبد الناصر، والعديد من التكريمات والجوائز التى أتته من دول أوروبية وعربية، وكان الكثير من الأدباء والنقاد والمتابعين يتوقعون ترشيحه لجائزة نوبل والحصول عليها، لكن كل التوقعات ذهبت أدراج الرياح ونالها العالمى الكبير نجيب محفوظ الذى يعرف قامة وقيمة يحيى حقى، وقال فور علمه بالفوز بجائزة نوبل: «أشعر بالخجل لفوزى بالجائزة فى حياة يحيى حقى الذى هو أحق بها منى لما قدمه من فضل فى تأسيس المدرسة الحديثة فى الأدب والنقد»، وقال عنه صديق عمره الكاتب محمود شاكر: «كنت ألمح فيه شفافية من الصعب أن أجدها فى غيره، ويحيى حقى يستحق أضعاف أضعاف جائزة نوبل». 
وعندما سألته ابنته الوحيدة «نهى» عن جائزة نوبل بعد فوز نجيب محفوظ بها قال لها: «الجائزة لن تذهب بعد ذلك إلى الأدباء، وستصبح موجهة للعلماء»، وصدقت توقعاته عندما فاز بها العالم الدكتور أحمد زويل، كان الكبير يحيى حقى يقول لابنته دائما: «أنا تركت لك اسمى، وهذا هو الميراث أو الثروة الحقيقية التى منحتك إياها»، ومنحنا نحن أيضا ميراثا رائعا من إبداعاته القصصية والروائية ومقالاته النقدية.


تعالوا نتأمل كلماته عن نفسه فى «كناسة الدكان» عندما قال: «عرفت مقامى منذ وعيت لهذا العرق الذى ينبض فى روحى، لست من الملهمين، ولا لى صاحب فى وادى عبقر، الإلهام نور ساطع كاشف لجميع آفاق الروح والعالم، يهبط على من يختاره دون سبب ظاهر، فيتلقاه بغير سعى منه إليه، وما أبعد الفرق بين هذا النور وبين أزيز الشرارة الخاطفة التى أحس بها وهى تتقد أحياناً فجأة ثم تنطفئ لتوها، إنها لا تنير لى إلا درباً ضيقاً وسط غابة كثيفة، يؤدى إلى كنز صغيرلا يفرح به إلا الأثرياء، تنطفئ هذه الشرارة وتتركنى لكى أشقى غاية الشقاء، حتى يتفصد العرق من جبينى من أجل أن أصل إلى هذا الكنز الذى رأيته وحدثته من بعيد كأننى أنحت فى صخر، وتحتم على أن أزيل عن العمل كل آثار العرق ليظن الناس أنها ولادة سهلة. إننى ممن يدخلون معبد الفن من أشد أبوابه ضيقاً وعسراً، وليست هذه الشرارة بزوارة، بهذا كنت من المقلين، أسمعهم يعيبون هذا علىّ، كأنهم يطلبون إلىّ أن أكون من المدلسين، يكفينى الصدق»، فعلا كان يحيى حقى أصدق من كتب عن البسطاء والمهمشين الذين كان يجلس معهم ويتبادل معهم الرؤى بكل تواضع. 


تعالوا ايضا لنعرف ما كتب الكبير يوسف إدريس - الذى لا يعجبه العجب - عندما قرأ ليحيى حقى «عنتر وجولييت» فى مقال بكتابه «جبرتى الستينيات» الصادر عام 1984، لأن كلمات يوسف إدريس بالذات لها قيمتها فى حق صاحب القامة والقيمة يحيى حقى، فنجده يقول: «أوقعنى كتاب فنانا الكبير يحيى حقى «عنتر وجولييت» فى حَيرةٍ شديدة؛ فلقد أغلقتُ الكتاب بعد قراءته وظلَلتُ فى حالة تفكيرٍ مستمر أتساءل عن دور الكاتب وماهية القصة والحد الفاصل بين الفن والحياة والقبح والجمال».


ويواصل يوسف إدريس مقاله مبينا: «يحيى حقى ليس كاتبًا سهلًا يقول لك حقائقَ سهلةً بوجهةِ نظرٍ محددةٍ ويريحك. لقد شقِيتُ وأنا أقرؤه بمقدارِ ما سعِدتُ، ودُخت بمقدارِ ما اهتدَيتُ، وحاولتُ أن أبحث بين السطور عن يده البيضاء الصغيرة تَهدينى، وكلما أوشكتُ أن أمسك بها أجده قد أشاحَ عنى فى حركةٍ ماكرة، وابتسامة أبٍ طيِّب يُريد أن يُعلِّم أولاده الحياة، ويقول: أتُحِب الخلاص بهذه السُّهولة ؟ جرِّب وذُق وتعلَّمْ وقاسِ. وإذا أردتَ الخلاص فلا تنشُده عندى، أَوجِده بنفسك، وعلى نَفسِك اعتمد، يا أيها الفنان الغامض الابتسامة، ماذا فينا يعجبك، وماذا فينا تُخرِج له لسانك المُؤدَّب، وماذا فى حياتنا يثيرك ويجعلك تستعمل هذه الطاقة الخارقة من الدهاء الفنى لكى تُخفِيه، ولكى تَسخرَ فتُحسَّ بسخريتك لا تضحك فتعقبها بدمعةٍ حزينةٍ سريعة تجعلنا ندمع، وتَقلِب فرحنا مأتمًا؟ أىَّ مكان تحت الشمس تختار، وحين تغوص لماذا تغوص، وما الحكمة التى تستخرجها وتضعها بعيدًا لنا، فى جزيرةٍ نائية، لكيلا يظفر بها إلا الجسور؟ حَيَّرتنى يا رجل، أأنت عالم فنٍّ أم فنان عالم ؟ هل هدفك أن تخلق جمالًا لا تجده، أم أنت قاضى حياةٍ تنقد، وتُصدِر حكمًا لا تُعلنه وتُبقيه لآخر جلسة قد تنتهى أعمارنا قبل نهايتها ؟ بينما أنت ماضٍ فى تأمُّل المتقاضِين تراقب الدنيا بأكثر من عين، ولك أكثر من فؤاد، وللحزن عندك رنَّة فرح، وللأفراح عندك مرارة الأحزان، والحياة سرك، كالمِقطَف المقلوب يتشقلب تحته الناس، ويُولدون، وأحيانًا ترتفع صرخة: فلان مات، صرخةٌ واحدة فقط؛ إذ البلياتشو يخرج بعدها ليُطلِق ضحكة، ضحكةً واحدة فقط، يعود بعدها كل ما فى السيرك إلى ما كان عليه؟!


ويستطرد يوسف إدريس قائلا: «يحيى حقى هنا لا يُريد أن يحكى لنا، هو يحكى عنا، ويتأمَّلنا، وكل أملى ألا يكون يتأمَّلنا من خلف منظارٍ ما، فهو نفسُه يصف - بروعة - شعور من يضع النظارات، فيقول: «ستبدو لك الأشياء كأنما انتُزِعَت من عالمها واقتُلِعَت من جذورها وفقَدَت عُصارتَها، وأصبَحَت مصاصًا تُشاهده كزائر مُتحفٍ للنماذج المصنوعة تقليدًا مُكبرًا أو مصغرًا لما خَلق الله»، إنى خائفٌ أن يكون الأمر كذلك، خائفٌ أن يكون يحيى حقى قد بدأ يرانا على ما نحن عليه، على حقيقتنا؛ فحتى لو كانت لنظرته كل صلابة الحقيقة ونفاذها، فالإنسان لم يبتكر الفن إلا ليقيم الحقيقة الثانية، إلا ليضع البُعد الآخر للواقع، إذ لو كان للواقع بعده الواحد المحدود الذى نراه لما احتمله الناس ولأستعذبوا الموت من زمن، فإذا كان الواقع هو الحقيقة الموجودة رغم أنف الإنسان، فالفن هو الحقيقة التى يُوجِدها الإنسان بنفسه ليصبح بها أقوى من الحقيقة الموجودة برغمه! يا فنانَنا الكبير، إنى لِفَرطِ حبى لك والإعجاب بك، أختلف هذه المرة معك».
« كنوز »