أدب الجنون.. خذ المتعة من أفواه المجانين

صورة موضوعية
صورة موضوعية

كتب: حسن حافظ

«خذ الحكمة من أفواه المجانين» حكمة تتردد فى أذهان الكثيرين ويرددونها على سبيل المزحة أو الطرفة أو الدعابة، لكنها تعكس بعض أوجه الحقيقة والواقع، فالجنون يطلق لسان الحقيقة ويطلق العقل من عقاله فيعطى حكمة مكثفة كطلقات الرصاص لا تعرف الحواجز، ومنها اهتم عالم الأدب بحالة الجنون واستخدمها فى البناء الأدبى بأشكال مختلفة تعبر عن الجنون وتستفيد من حالاته المنفلتة فى البناء القصصي.


ولم يكن الأمر قاصرا على الرواية الحديثة، بل إن العرب كان لهم السبق فى الاهتمام بأدب الجنون عبر تسجيل حالات المجانين وأدبهم فى كتب الحمقى والمجانين فكتبوا لأنفسهم السبق فى أدب الجنون الذى أصبح من أشهر الصيحات فى الأدب العالمى الحديث، وكان العرب يبحثون عند المجانين عن «طرائف من الكلام».

التراث العربى يذخر بالعديد من المؤلفات التى وقفت أمام ظاهرة المجانين وعلاقتهم بالأدب، فالعديد من كبار المؤلفين فى الحضارة الإسلامية ركزوا أنظارهم على هذه الظاهرة التى لا يخلو منها مجتمع إنساني، وتعاملوا بها بمنطق متصالح ولم يمارسوا إجراءات إقصائية ضد المجانين كما كان يحدث فى أوروبا وقتذاك، بل على العكس عملوا على دمج هذه النماذج فى المجتمع عبر عرض الكثير من النماذج للمجانين والحمقى والمغفلين فى مختلف طبقات المجتمع، وهو ما يظهر فى سلسلة طويلة من الكتب المؤلفة عن الموضوع، فنرى أمير البيان العربى عمرو بن بحر الجاحظ، يخصص الكثير من أخبار المجانين فى كتابه الموسوعى (البيان والتبيين)، وله كتاب عن (أخبار المجانين)، بينما ألف معاصره المدائنى كتاب (أخبار الحمقى)، وألف عن الجنون والمجانين كل من أحمد بن لقمان، وأبى على سهل بن على البغدادي، بينما ألف ابن أبى الدنيا كتاب (حكماء المجانين)، كما ألف ابن إسماعيل الضراب المصرى كتاب (عقلاء المجانين والموسوسين).

العرب أبدعوا فى رصد أدب المجانين وأشهرهم الجاحظ وابن الجوزى

عقلاء المجانين
ومن أهم الكتب التى تفخر بها حضارة المسلمين كتاب (عقلاء المجانين) لأبى القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، ويقول عن سبب تأليفه الكتاب: «ولقد سألنى بعض أصحابى عودًا على بدء أن أصنف كتابًا فى ذكر عقلاء المجانين وأوصافهم وأخبارهم... فلم أجد بدًا من إسعافه بطلبته، وإجابته إلى بغيته، تحريًا لرضاه وتوخيًا لهواه»، ثم يدخل فى استعراض المعنى اللغوى للجنون، ليعرض لأسماء المجنون فى اللغة، ثم يعرج إلى الأمثال المضروبة فى الحمق والحمقى، بل يرصد جنون الحيوانات وأسماء جنون الدواب، ثم يدخل عالم المجانين بذكر أخبار عقلاء المجانين وأوصافهم، ومجانين الأعراب ومجانين النساء، وهو فى كل ذلك يقدم مادة أدبية فريدة المثال وتكاد لا تكون مسبوقة.

استلم الراية بعده ابن الجوزى فى كتابه الشهير (أخبار الحمقى والمغفلين) الذى يعد واحدا من أهم الكتب المؤلفة فى المجال، وهو دراسة غير مسبوقة فى معناه، لم تكتف بالتعريف اللغوى لمعنى الحمق باعتباره حالة قريبة من الجنون، بل تعمقت فى الصفات الجسدية للأحمق من حيث صغر جمجمته، أو قصره وطول لحيته، أو صغر أذنيه، ثم يرصد المغفلين فى كل طبقات المجتمع المسلم فى القرن السادس الهجري/ الثانى عشر الميلادي، لتكتمل بذلك دائرة أدب المجانين والحمقى والمغفلين التى عالجها كبار المثقفين المسلمين فى العصور الوسطى ولفتت الأنظار إلى الحكمة التى تخرج من أفواه المجانين، وقدرتهم على توليد الأدب الغنى بمعانى الحياة المختلفة.

ثيربانتس أسس لأدب الجنون فى الرواية بعمله عن «دون كيخوت»

البطل الأحمق
انتقل الاهتمام بظاهرة الجنون فى الأدب إلى الأدب الأوروبي، ولدينا نموذج مبكر فى رواية (دون كيشوتي) للأديب الإسبانى ثيربانتس، والتى تدور حول البطل الأحمق الذى يصل إلى أعتاب الجنون، فيظن أنه صاحب رسالة مقدسة فيحارب طواحين الهواء التى تصورها شياطين لها أذرع هائلة، بعدما أصابته كتب الفروسية بلوثة عقلية جعلته يتقمص شخصية فارس ويخلط بين الواقع وأوهامه، فى حالة من حالات جنون العقل، ليدخل بعدها الاهتمام بالجنون وحالاته المختلفة من انفصام إلى الأدب الأوروبى من أوسع أبوابه، ونجد مثلا رواية (قضية الدكتور جيكل والسيد هايد الغريبة)، التى كتبها الروائى الإسكتلندى روبرت لويس ستيفنسون سنة 1886، والتى يمكن اعتبارها محاولة للحديث عن الانفصام النفسي، والتى على الرغم من عدم قدرته على التعبير عنها، إلا أن المشاكل النفسية فى شخص الدكتور جيكل كانت واضحة بشكل جعل علماء النفس يعتبرون نموذج جيكل/ هايد معبراً عن الفصام النفسي، بينما رسخ أديب روسيا الأكبر دوستويفسكى شهرته ومكانته الأدبية العالمية عبر قدرته على التحليل النفسى لنماذج أبطال رواياته التى تقترب من حد الجنون وفقدان السيطرة على النفس.

اقرأ أيضًا

محمد نصر الجبالى يكتب: «فيليمير خليبنيكوف» مؤسس تيار المستقبلية فى الأدب الروسى

الأدب الأوروبى استفاد من منجز السيكولوجيا فى تصنيف الأمراض النفسية

تاريخ الجنون
ومع تطور علم النفس على يد سيجموند فرويد وكارل سونج وغيرهما من أجيال علماء النفس، وظهور مدونة علم النفس التى ترصد مختلف الأمراض، ثم قيام الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو بوضع كتابه الشهير (تاريخ الجنون فى العصر الكلاسيكي)، الذى رصد تاريخ الأفكار والممارسات والمؤسسات المتعلقة بالجنون وتجلياته النفسية فى التاريخ الأوروبي، أصبح للجنون وأمراضه النفسية مكانة بارزة فى المشهد الروائى الأوروبى والعالمي، فظهر العديد من الروايات التى تدور حول حبكات الأمراض النفسية المختلفة وصولا إلى الجنون، مثلما هو حال أعمال الروائى الأمريكى توماس بنشون، خصوصا روايته (قوس قزح الجاذبية) والتى تركز على جنون البرانويا، وروايته (صيحة القطعة 49) المعتمدة على الهوس بنظرية المؤامرة ومخاطر العلاج النفسى بعقار الهلوسة.

ونجد رواية (معرض الفظائع) للكاتب الإنجليزى جيه جى بالارد، التى تغرق فى الفصام ليس على مستوى الشخصيات فقط بل على مستوى بناء الرواية نفسه، التى تبدو وكأن من كتبها مصابا بالفصام، وهو ما نجده فى رواية (الخبز العاري) للأديب الأمريكى ويليام بوروز، أما الأديب الأمريكى ويليام فوكنر فيقدم فى روايته الشهيرة (الصخب والعنف) إذ يروى الفصل الافتتاحى من الرواية وأكثر من ربع فصولها رجل معاق ذهنيا، ويقدم روايته للأحداث بلغة مفككة ضبابية، وهى طريقة صادمة فى الرواية وجعلتها واحدة من أهم الأعمال الأدبية فى التاريخ، إذ ثبت أدب ما بعد الحداثة من الاستعانة بالجنون فى البناء الروائى كرد فعل على جنون العالم وعبث الحياة كما رآها أدباء ما بعد الحداثة.

نجيب محفوظ كتب «السراب» والقصيبى رسخ هذا الفن بـ«العصفورية»

تجارب عربية
وفى المشهد الروائى العربى قدم نجيب محفــوظ رواية (السراب)، فشخصية البطل مليئة بالأمراض النفسية، بينما عاد الروائى السعودى غازى عبد الرحمن القصيبي، وانتصر لتراث أدب المجانين العربى فى روايته الشهيرة (العصفورية)، إذ تدور أحداث الرواية فى مستشفى الأمراض النفسية، وبطلها هو البروفيسير الذى يجد نفسه ضيفا على المستشفى كأحد المرضى، ليكشف الروائى من خلال عامل المجانين الكثير من مشاكل المجتمعات العربية بمبضع الجنون، فليس على المجنون حرج فيما يقوله، فيعالج القصيبى من خلال عالم الرواية الدائرة فى دنيا الجنون الكثير من الأفكار التى تتعلق بالثقافة العربية وتاريخها ومستقبلها وعلاقتها بالآخر.

 كما وظف الروائى الجزائرى حسان أحمد شكاط المرض النفسى فى روايته (ذاكرة عالقة) إذ يعانى البطل من الفصام ما يؤثر على مساره فى الحياة وعلاقاته بأسرته والمجتمع كله، وفى السنوات الأخيرة ظهر العديد من الروايات التى تدور حول العوالم النفسية شديدة التعقيد فى المشهد الروائى العربي، لتؤكد على استمرارية هذا الفن الأدبي.