محمد عبد الفتاح السباعي يكتب: التاريخ الشعبى لكرة القدم.. 11لاعباً لاستقلال الجزائر بمسامير الحذاء

للفنان : أندرية فاسيليفيتش
للفنان : أندرية فاسيليفيتش

من أجل إعطاء زخم لقضية الاستقلال وإعادة استثمار شعبية الكرة فى المجال السياسى، لجأت قيادة جبهة التحرير للاتصال بالرياضيين الجزائريين  المحترفين فى فرنسا لدعوتهم للانضمام للقتال ولأن  يكونوا رواد التحرير الجزائرى.

«يحكموننا ببنادقهم وآلاتهم. ولكن وجهاً لوجه في ملعب كرة قدم، يمكننا أن نُريهم من هو الطرف الأقوى حقاً». فرحات عباس
(زعيم وطنى ورجل سياسى جزائرى، مؤسس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، عضو جبهة التحرير الوطني إبان حرب التحرير الجزائرية، أول رئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة للجمهورية الجزائرية من 1958 إلى 1961، تم انتخابه عند استقلال الجزائر رئيسا للمجلس الوطنى التشريعى. توفى فى 23 ديسمبر 1985.).

فى تحدٍ لحظر الفيفا، لعب فريق جبهة التحرير الوطنى، منذ عام 1958 وحتى استقلال الجزائر فى عام 1962، أكثر من 80 مباراة فى 14 دولة. وشارك الفريق على وجه الخصوص فى ثلاث جولات دولية كبرى كانت بمثابة ملاحم سياسية ورياضية.

هى بالفعل أكثر من مجرد لعبة، إذ أن كرة القدم تحمل انعكاسًا يلحظه القاصى والداني، وذلك حتى قبل أن يجتاح التكامل المزعوم، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، بأيديولوجية النيوليبرالية، الأسواق، وذلك الانعكاس هو العولمة. فمن الملاحظ، منذ الربع الأخير للقرن العشرين، أن اللعبة الأكثر شعبية فى العالم قد احتلت أكثر الأماكن عزلة على سطح هذا الكوكب. 
وحقيقة الأمر، فإن كرة القدم قد وُلدت معولمة، إذ حملها بحارة الإمبريالية الإنجليزية إلى شواطئ العالم. ففى البرازيل، تم تقديم الكرة رسميًا بتاريخ 14 أبريل 1895، عندما نظم برازيلى من أصل بريطانى المباراة الأولى، والتى كانت مرتبطة بألعاب ترفيهية بين أطقم السفن الإنجليزية. ومن الممكن أن يكون الأمر كذلك فى العديد من البلدان الأخرى ومن بينها فرنسا، حيث أدى وصول كرة القدم عبر ميناء لوهافر فى عام 1871 إلى تأسيس أول فريق فرنسي، من خلال نادى لوهافر الرياضي.
كرة القدم أكثر من مجرد لعبة لأنها ببساطة غيرت فى المفاهيم والعلوم التى يتم تدريسها فى كليات السياسة والاقتصاد، فالتعريف التقليدى للبلد، والقائم على الشعب والدولة والحكومة والإقليم، يتضمن الآن عنصراً إضافياً لا غنى عنه لاكتماله: الفريق الوطنى لكرة القدم. والبلد لا يصبح بلدًا بالمعنى الكامل للكلمة إلا إذا كان له منتخب يدافع عن حدوده ويلعب باسمه. وحتى فى حالة عدم وجود أمة كتجمع سياسى مستقل، ناهيك عن دولة ذات سيادة، فإن كرة القدم تمنح الفرصة لتمثيل تنافسى على خريطة العالم، حيث يشجع الاتحاد الدولى لكرة القدم FIFA، أكثر من الأمم المتحدة UN، أعضاءه على الدخول فى المنافسة فى إطار لعبة العولمة. وليس أدل على ذلك من أقاليم وممتلكات ومستعمرات لم يتم قبول أوراقها فى الأمم المتحدة ولكن باتت معتمدة فى الفيفا.

ولتوضيح أكثر تفصيلاً، فإن الأمم المتحدة تضم، اليوم، فى عضويتها 193 دولة، بينما يضم FIFA 209 أعضاء، من بينهم ممثلون لدول لا تتمتع بالسيادة، مثل أوروبا (تقع جزيرة تقع جنوب البحر الكاريبي) وجزر كايمان، وتاهيتى، وهى أقاليم خاضعة سيادياً لهولندا وبريطانيا وفرنسا على الترتيب. وبينما ترفض الأمم المتحدة عضوية فلسطين وتايوان كدولتين عضوين، فإن FIFA منح كل منهما مقعداً فى زيوريخ.


وفى الماضى القريب، فإن جنوب السودان، أصغر دولة فى العالم، كان حريصًا فى 10 يوليو 2011، وهو اليوم التالى مباشرة لإعلان قيام الدولة والانفصال عن الخرطوم، على أن يلعب أحد عشر لاعباً يمثلونه بنشيد وطنى وعلم مختلفين، مباراة على ملعب ترابى فى العاصمة جوبا. وعندما تأهلت أنجولا، التى حصلت على استقلالها من المستعمر البرتغالى فى عام 1975، لكأس العالم 2006، تم الاحتفال بهذا الحدث فى شوارع لواندا بالغناء «نحن دولة». 


بمد الخط على استقامته فى اتجاه المنافسات المحلية نكتشف أن تشجيع الأندية والتعصب لها والترحال خلفها فى كل مكان، يعكس جزءًا من شخصية المشجع وتركيبته الاجتماعية، ففى إسبانبا على سبيل المثال تتكون جماهير ريال مدريد فى الأساس من المستفيدين المتربحين وكذلك المنتمين لحاشية الملك والإقطاعيين، بينما جمهور برشلونة هم أولئك العمال الاشتراكيون الذين ثاروا من أجل جمهورية ظنوا يوماً أنها ستجلب العيش والحرية والمساواة.


هنا ننتقى من كتاب ميكائيل كوريا «تاريخ شعبى لكرة القدم» والذى يحكى عن الجذور التاريخية لنشأة كرة القدم منذ القرن الرابع عشر، وربما ما قبل ذلك، إلى أن تطورت للشكل الحالى كصناعة كبرى تتدخل فيها السياسة بوجهها القبيح أحيانا.


ومن منظور مغاير يتتبع قصة كرة القدم وتوابعها منذ نشأتها وحتى اليوم، من إنجلترا إلى فلسطين، ومن ألمانيا إلى المكسيك ومن البرازيل إلى جنوب إفريقيا. وفى تناوله للتاريخ «من أسفل» يذكّرنا المؤلف ميكائيل كوريا بدور مشجعى الكرة وقدرتهم على الدعم والاحتواء وليس مجرد الشغب.


والكتاب يشرح أيضا كيف كانت الكرة وسيلة لمقاومة العنصرية وكيف تم توظيفها كأداة لخدمة نازية هتلر وفاشية موسولينى، كما يحكى عن لاعبين قتلهم هتلر عقابا على مواقفهم السياسية.


ويروى الكتاب كذلك عن كرة قدم كطريق نضال للشعب الفلسطينى فى مواجهة الاحتلال، وكسلاح استخدمته الجزائر للتخلص من المستعمر الفرنسي والنسخة الفرنسية صدرت عن دار نشر «لاديكوفيرت» أما النسخة العربية فقد صدرت عن دار المرايا.


«بالنسبة لى، لم أعرف فى شبابى  ذلك الشعور القوى بالأمل والتضامن سوى فى الرياضة الجماعية. إنه شعور يأتى بعد أيام طويلة من التدريب والمباريات التى نربحها أو حتى تلك التى نخسرها.

وحقيقة الأمر أن القليل من الأخلاقيات التى تعلمتها، لم أكتسبها سوى فى ملاعب كرة القدم ومراحل التمثيل المسرحى التى ستظل المعبر والعنوان الحقيقى لمرحلتى الجامعية.. هذه الذكريات الكروية للفيلسوف والكاتب المسرحى الفرنسى ألبير كامو.

والتى أفصح عنها فى حوار تليفزيونى عام 1959، انتقلت إلى أجيال لاحقة. حيث كان كامو حارس المرمى لـ «فريق جامعة الجزائر» فى ثلاثينيات القرن الماضى، ويستحضر كامو، بشكل متقطع، ذكرياته عن كرة القدم الجزائرية إذ أنها كانت «متعددة الثقافات ورمزاً للتفاهم الأخوى بين المجتمعات المسلمة واليهودية والأوروبية فى المغرب العربى».

وبحنين إلى الماضى، يتذكر المؤرخ الجزائرى عبد الرحمن زانى أيضاً: «سواء كان اسمهم محمد أو مارسيل، فقد بللوا بعرقهم القميص نفسه، ودعموا نفس الأندية، وهتفوا معًا باسمى سلفا و حداد [أسماء لاعبين جزائريين مشهورين من الأربعينيات].

 

وهذا هو الوجه الآخر للجزائر الذى كان حاضراً بشكل يومى بين أصحاب الأقدام السوداء (الأقدام السوداء تسمية تطلق على المستوطنين الأوروبيين الذين سكنوا أو ولدوا فى الجزائر إبان الاحتلال الفرنسى للجزائر)،والمسلمين».


لكن ذكريات كرة القدم الجزائرية المختلطة تحجب الدور الحقيقى الذى لعبته فى الثقافة الاستعمارية لمنطقة كانت خاضعة للسيطرة الفرنسية منذ عام 1830 وحتى عام 1962. وحقيقة الأمر، أن كرة القدم كانت النشاط الرياضى المفضل لسكان الجزائر.

وكل فئات المجتمع بأعراقه المختلفة. أما السلطات الاستعمارية، فكانت ترى فى اللعبة أداة للرقابة الاجتماعية ولتثقيف «السكان الأصليين». وفى إطار تعزيز العلاقات مع العاصمة (العاصمة هنا المقصود بها فرنسا)، يجب أن تكون كرة القدم صانع سلام اجتماعى فى خدمة النظام الاستعمارى.

وهذا على سبيل المثال ما أكده الجنرال هنرى جيرو، الذى كان قائداً لفرقة وهران عام 1936، بالقول: «يجب أن تكون الرياضة هى الرابط الذى يجعل من الممكن توحيد الفرنسيين والمسلمين فى نفس الرغبة فى الأداء والتطلعات النبيلة، بالقضاء على كل تنافس بين الأديان والأعراق».


كرة القدم والتحرر الوطنى 

ومع ذلك، شهدت عشرينيات القرن الماضى ظهور أول أندية جزائرية  لكرة القدم، تتشكل فرقها حصراً من السكان الأصليين، داخل البطولات المحلية، وذلك مثل أندية: وهران والجزائر العاصمة وقسنطينة. ومنذ موسم 1923-1924، كان هناك ما لا يقل عن عشرة أندية «مسلمة» فى دورى وهران (من أصل أربعين ناديا)، وأربعة فى دورى الجزائر وأربعة فى الدورى القسنطينى.

ورغم طابعها المجتمعى، فقد استفادت هذه الأندية «المكونة حصراً من السكان الأصليين» من تساهل السلطات الاستعمارية، لأنها ظلت محايدة تجاه الهيمنة الفرنسية بينما ظلت محصورة فى طموحاتها الترفيهية والصحية. بالإضافة إلى ذلك، وبدأت المروج الجزائرية فى العمل كمفرخة لأندية المحترفين الكبرى فى العاصمة. مثل القطاع الصناعى الذى يعتمد بشكل كبير على العمالة الشمال أفريقية.

وينشط اللاعبون الجزائريون المحترفون الأوائل، مثل على بنونة، من قبل نادى «إف سى سيت»، أو عبد القادر بن بوعلى، المدافع اللامع فى «أولمبيك مرسيليا»، ضمن بطولة الدورى الفرنسى منذ بداية البطولة فى الثلاثينيات.


اسهمت حركتان متوازيتان خلال فترة ما بين الحربين العالميتين فى جعل كرة القدم ناقلًا للتسييس المناهض للاستعمار: تزايد شعبية الكرة المستديرة  فى العاصمة الفرنسية وكذلك فى الجزائر، وظهور أول منظمات استقلال جزائرية. حيث تأسست منظمة «النجم الشمال إفريقى» عام 1926، وحزب الشعب الجزائرى عام 1937.

ومن هنا بدأت ملاعب كرة القدم تتحول تدريجياً إلى أماكن للصراع بين فئات المجتمع، وبلورت أندية «السكان الأصليين» الرغبة فى الاستقلال عن العاصمة. واندلعت العديد من الأحداث التى شارك فيها مشجعون أو لاعبون فى قسنطينة، وبسببها قرر الحاكم العام للجزائر، فى 20 يناير 1928.

وحظر المباريات بين الفرق الأوروبية وفرق «السكان الأصليين». ومع ذلك، لم تأخذ سلطات كرة القدم المناطقية فى الاعتبار هذا الحظر، الذى يصعب تطبيقه محليًا، لتستمر الاشتباكات بين الفئات المختلفة على أرض الواقع.

وهذا هو الحال، على سبيل المثال، فى منطقة دجيدجيلى، لدرجة أن المحافظ كتب منزعجاً فى 22 ديسمبر 1937، إلى الحاكم العام، يخطره بسلسلة من «المظاهرات المؤسفة التى من المحتمل، بمساعدة الظروف، أن تخل بالنظام و الأمن العام».


فى محاولة لتخفيف التأكيد على الهوية الجزائرية فى كرة القدم، صدر تعميم من السلطات الاستعمارية يُلزم الأندية الإسلامية بتخصيص  ثلاثة، ثم لاحقاً خمسة، أماكن فى قائمته للاعبين أوروبيين. وتم تطبيق هذا القرار الإدارى غير المتوافق بطريقة متقطعة وعشوائية فى مختلف بطولات كرة القدم وفى البلديات، ثم تم إلغائه نهائيًا فى أبريل 1945.

وتتسع حركة الاستقلال داخل كرة القدم وتزداد صعوبة احتوائها. وفى ديسمبر 1945، أبلغت شرطة تلمسان عن حادثة وقعت خلال مباراة بين فريق «اتحاد تموشنت» وفريق «أوروبيى بنى ساف».

وجاء فى البلاغ أن : «الأغنية التى غناها فريق «عين تموشنت المسلم كانت بعنوان» فى جبالنا»، وتقول كلماتها: «أحب الرجال الأحرار المناسبين لنا فى طريقنا من أجل الاستقلال».


بعد الحرب العالمية الثانية، قوبلت التطلعات المتزايدة للتحرر الوطنى بقمع عسكرى وحشى، ففى مدينة سطيف، وتحديدا  فى 8 مايو 1945، اغتيل آلاف الجزائريين على أيدى القوات الفرنسية والمستوطنين عقب مظاهرة نادت بالاستقلال. ولكن على نطاق عالمى، كانت عمليات التحرر الوطنى جارية على قدم وساق.

وبعثت الثورة المصرية عام 1952 وسياسة عبد الناصر القومية، علاوة على كارثة القوات الفرنسية فى الهند الصينية فى «ديان بيان فو» فى ربيع عام 1954، أملاً هائلاً بين الانفصاليين الجزائريين. وفى 1 نوفمبر 1954.

وأطلقت جبهة التحرير الوطنى (FLN) حملة تمرد مسلح بسلسلة من الهجمات على قوات الاحتلال الفرنسى.وردت باريس بقوة غاشمة، واعتقادًا منها أن بإمكانها القضاء على  القومية، شنت هجمات مروعة على الشعب الجزائري.


وبينما تنزلق الجزائر إلى «حرب قذرة»، تتحول ملاعب كرة القدم إلى ساحات للمعارك، ففى ربيع عام 1956، كان من المقرر أن يشارك فريقان من مدينة «سيدى بلعباس» فى المباراة النهائية لكأس شمال إفريقيا.

وهما فريقا «إس سى بلعباس»، المكون من «الأقدام السوداء» وفريق اتحاد الرياضة الإسلامية في «بلعباس»، لكن جدلاً اندلع حول مشاركة أحد لاعبى نادى « إس سى بلعباس»، بينما كان قدم تم إيقافه رسميًا.

ومع حصول المغرب وتونس على استقلالهما فى مارس 1956، فإن المناخ السياسى الجزائرى كان متفجراً بطبيعة الحال، وأثار هذا الخلاف حول كرة القدم موجة من الاحتجاجات الشعبية فى جميع أنحاء البلاد. وخشية من أن يتصاعد الموقف.

وألغى الحاكم العام المباراة، مما أثار حفيظة جبهة التحرير الوطنى، الأمر الذى أجبر جميع أندية كرة القدم الإسلامية على مقاطعة جميع المنافسات إلى الأبد. وانضم بعض اللاعبين ومديرى الأندية إلى الكفاح من أجل الاستقلال، مثل محمد بن حامد، من اتحاد الرياضة الإسلامية فى وهران، والذى أصبح زعيمًا لجبهة التحرير الوطنى فى المغرب، وكذلك العديد من أعضاء اتحاد الرياضة الإسلامية فى «بلعباس»، الذين شاركوا فى التمرد ضد الاحتلال.


وخلال حرب الجزائر، فى 10 فبراير 1957، نفذت منظمة الاستقلال من جانبها هجومين بالقنابل فى ملعب البيار لكرة القدم، وفى منطقة بلكورت، مما روع المشجعين المنتمين لفئة «الأقدام السوداء». وبعد ثلاثة أشهر من هاتين الواقعتين، تحركت جبهة التحرير الوطنى فى العاصمة الفرنسية باريس: خلال المباراة النهائية لكأس فرنسا.

ففى 26 مايو، اغتيل النائب الموالى للاحتلال، على شكال، على يد أحد عناصر جبهة التحرير الوطنى عند الخروج من ملعب كولومبوس، بعد حضوره المباراة النهائية رفقة رئيس الجمهورية الفرنسية رينيه كوتى.

وواصلت الحكومة الفرنسية استخدام الكرة لتعزيز سلطتها الاستعمارية. ففى مراحل معينة، كان يقع الاختيار على ملاعب جزائرية من قبل الاتحاد الفرنسى لكرة القدم (FFF) لاستضافة مباريات البطولة الفرنسية رغم الصراع من أجل الاستقلال.

وفى 4 مارس 1956، أقيمت الجولة 16 من بطولة الدورى الفرنسى بين فريقى «لوهافر» و«نيس» فى ملعب «مونريال دوران» قبل أن يتم اختيار نفس المدينة لاستضافة بطولة كرة القدم العسكرية لعام 1960.


ورغم ذلك، وحتى خريف عام 1957، فإن حرب التحرير التى خاضتها جبهة التحرير الوطنىFLN، كانت تتمتع بتغطية إعلامية ضعيفة نسبيًا فى فرنسا بأوامر من السلطة، حيث كانت الصحافة تشير إلى نضال جبهة التحرير وعملياتها المتعددة على أنها مجرد «أحداث داخلية».

وعلى الجبهة العسكرية، كان هناك شعور مؤلم بنقص الأموال والأسلحة، وعلى الصعيد الدبلوماسى، فإن الأمم المتحدة كانت بطيئة فى الاعتراف بحق الجزائر فى تقرير المصير. ومن أجل إعطاء زخم لقضية الاستقلال وإعادة استثمار شعبية الكرة فى المجال السياسى، لجأت قيادة جبهة التحرير للاتصال بالرياضيين الجزائريين المحترفين فى فرنسا لدعوتهم للانضمام للقتال ولأن يكونوا رواد التحرير الجزائرى.

واقترح محمد بومزراك، العضو القيادى فى الفرع الفرنسى لجبهة التحرير الوطنى واللاعب السابق لـ«جيروندان دى بوردو» ومدرب فريق «لومان»، على قادة منظمة الاستقلال إنشاء فريق كرة قدم من الصفر مختوم بجبهة التحرير الوطنى.


وكانت محاولة تشكيل فريق من «السكان الأصليين» قد جرت قبل ذلك بثلاث سنوات، ولكن بمبادرة من السلطات الفرنسية، ففى 7 أكتوبر 1954، نظم اتحاد كرة القدم الفرنسى FFF  مباراة خيرية لدعم مدينة أورليانفيل الجزائرية (الشلف) التى ضربها زلزال فى سبتمبر من نفس العام.

وكانت المباراة فى ملعب حديقة الأمراء بباريس، حيث واجه الفريق الاحتياطى الفرنسى ما أطلق عليه منتخب «شمال إفريقيا» المكون من لاعبين جزائريين موهوبين إلى جانب لاعبين تونسيين ومغاربة (مثل مصطفى زيتونى وعبد العزيز بن طيفور وعبد الرحمن بوبكر وعبد الحميد بوشوك).

 

وأمام 90 ألف متفرج، فاز فريق شمال إفريقيا بثلاثة أهداف مقابل هدفين ... أقيمت المباراة قبل أيام قليلة من اندلاع حرب التحرير الجزائرية، لتكتسب فيما بعد رمزية قوية بشكل خاص.


وفى بداية عام 1958، وبأوامر من جبهة التحرير الوطنى، كان محمد بومزراق مسئولاً عن التسلل إلى تونس، مقر الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA) للقيام بمهمة سرية، حيث يقيم بها عدد من اللاعبين الجزائريين المحترفين فى العاصمة الفرنسية.

وكان الهدف من العملية هو تشكيل الفريق الرائد للثورة الجزائرية. وخلال موسم 1957-1958، كان قرابة 40 لاعب كرة قدم جزائرى يلعبون كمحترفين فى أندية فرنسية، ودفع العديد منهم بالفعل لجبهة التحرير الوطنى بشكل دورى «ضريبة ثورية» يمكن أن تمثل ما يصل إلى 15٪ من رواتبهم.


وفى نهاية التدريب، أو فى نهاية المباراة أو فى نهاية ليلة ما، يقترب محمد بومزراق شخصيًا من أفضل اللاعبين الجزائريين واحدًا تلو الآخر فى محاولة لإقناعهم بالانضمام إلى النضال من أجل الاستقلال. وبعد عدة أشهر من العمل، تمكن ناشط جبهة التحرير الوطنى من إقناع اثنى عشر لاعبا بمغادرة فرنسا فى سرية تامة.


الهروب الكبير
وفى وقت مبكر من صباح يوم 14 أبريل 1958، غادر مهاجم نادى سانت إتيان الشاب رشيد مخلوفى المستشفى وقد ضمد رأسه بينما لا يزال يرتدى البيجامة. فى اليوم السابق، خلال مباراة قوية فى ملعب «جيوفرى جيشار» ضد فريق «بيزيه».

واصطدم بعنف مع زميله فى الفريق «يوجين جو ليا». عندما غادر المستشفى، سرعان ما اندفع إلى سيارة حيث ينتظره داخلها مختار العريبى، لاعب «آر سى لينس» السابق الذى أصبح مدربًا لـ «أفينيون»، وكان معه جناح أولمبيك ليون عبد الحميد كرمالى.

وقبل مغادرته المستشفى بيومين، نجح اللاعبان فى إقناع رشيد مخلوفى المنحدر من سطيف مثلهما، بالانضمام إليهما فى مغامرة الاستقلال المذهلة هذه. إذ لا يزال هناك ذكرى مؤلمة للجزائريين الذين قُتلوا بمدفع رشاش بالقرب من منزل العائلة خلال مذابح سطيف عام 1945، ولم يتردد مخلوفى فى الذهاب إلى المنفى فى تونس ليلحق بالمقاومة.


الثلاثى توجه إلى سويسرا عبر مدينة ليون الفرنسية، حيث انضم إليهم منها منشق آخر هو عبد الحميد بوشوق لاعب نادى تولوز، وعبر الأربعة الحدود السويسرية فى نفس اللحظة التى أعلن فيها راديو إذاعى عن هرب اللاعبين الجزائريين.

وقبل تلك الواقعة بأيام قليلة، كان خمسة لاعبين جزائريين يلعبون فى الدرجة الأولى، من بينهم مصطفى زيتونى الذى كان أشهر من نار على علم، قد فروا بالفعل من فرنسا سراً. فى تلك الأثناء، لم يكن موظفو الجمارك قد استمعوا إلى تلك الأخبار فى الراديو.

ولذا وحينما تعرفوا على رشيد مخلوفى، قدموا له التهنئة على مستواه المتميز للغاية... الفريق يصل دون أى عوائق إلى مدينة  لوزان، حيث ينتظرهم سعيد الإبراهيمى، مهاجم نادى تولوز، ومحمد بومزراق، العقل المدبر لهذه الانشقاقات، والذى أخذهم عبر القطار إلى روما قبل الوصول إلى محطتهم النهائية، تونس، بالطائرة.


وفى اليوم التالى، ومن بين 12 لاعباً «تم تجنيدهم»، تم فقد الاتصال بلاعبين اثنين. حيث اعتُقل محمد معوش لاعب «استاد ريمس» على الحدود الفرنسية الإيطالية، كما تم توقيف حسن شابرى لاعب موناكو فى مينتون قبل أن يُرحل إلى المعتقل، علماً بأن كليهما انضم للمقاومة الجزائرية فى وقت لاحق.

ومع ذلك، فى جمهورية فرنسية رابعة تعيش مرحلة الاحتضار، دوى صدى العملية مثل قصف الرعد سياسياً ورياضياً. واعتبارا من صباح 15 أبريل، تم تخصيص العناوين الرئيسية لصحيفة «الايكيب» لعملية هروب اللاعبين الجزائريين.وإذ أفردت مجلة «فرانس فوتبول» أربع صفحات لهذا الزلزال الذى هز عالم المستديرة الفرنسية.

وبعد أسبوع، نشرت مجلة «بارى ماتش» مقالاً مطولاً مؤلمًا بعنوان: «نجوم كرة القدم الفرنسيين، ما هم إلا قطاع طرق». وتحت صورة تُظهر «المتمردين» وهم يشربون نخب الشمبانيا فى حانة نيس التى يملكها اللاعب عبد العزيز بن تيفور، ألصقت الصحيفة هذا التعليق: «الآن هم فى أرض النساء المحجبات والماء».

ومن جانبه نشر الاتحاد الفرنسى لكرة القدم FFF  بيانًا صحفيًا بلغة أبوية قاسية، جاء فيه: «الإيمان بمستقبل كرة القدم فى مقاطعاتنا العزيزة فى شمال إفريقيا متغلغل فى قادتها. اللاعبون من السكان الأصليين يعضون بعمق فى خبز كرة القدم الذى نوزعه عليهم».


التاريخ الذى تم اختياره لهروب اللاعبين لم يأت اعتباطاً، وكذلك أسماء اللاعبين الجزائريين العشرة الذين تم تجنيدهم من قبل المقاومة. ففى 16 أبريل، كان من المقرر أن يلعب المنتخب الفرنسى مباراة تحضيرية ضد سويسرا كجزء من الاستعداد لكأس العالم التى ستقام فى السويد فى يونيو 1958.

وبالنسبة للاعبين، فمصطفى زيتونى لاعب نادى موناكو هو لاعب أساسى فى خط دفاع منتخب فرنسا. وبالمثل، رشيد مخلوفى، بطل الدورى الفرنسى مع نادى «سانت إتيان» وبطل العالم مع الفريق العسكرى الفرنسى فى عام 1957 (كان جندياً فى كتيبة جوينفيل).

وهو أيضًا ضمن القائمة القصيرة للعب فى كأس العالم. كما ارتدى هاربون آخرون، مثل بن تيفور لاعب موناكو، وسعيد الإبراهيمى لاعب تولوز، قميص منتخب الديوك فى عدة مناسبات.


ومن خلال إضعاف منتخب فرنسا عشية مباراة لها أهمية كبيرة، كانت جبهة التحرير الوطنى الجزائرية تأمل فى ترك علامة لدى الرأى العام فى باريس. كما يهدف هذا العمل الحربى-الرياضى أيضًا إلى إظهار أن نجوم كرة القدم المحترفين على استعداد لاحتضان قضية استقلال الجزائر.

وفى 15 أبريل، نشرت جبهة التحرير الوطنى البيان الصحفى التالي: «يسر جبهة التحرير الوطنى أن تعلن أن عددًا معينًا من الرياضيين الجزائريين المحترفين قد غادروا للتو فرنسا وإمارة موناكو بدعوة من الجزائر للقتال.

وعند استقبالهم من قبل جبهة التحرير الوطنى، أعرب إخواننا عن سعادتهم البالغة لوجودهم بيننا. وأوضحوا لنا مطولاً أنه فى نفس اللحظة التى كانت فيها فرنسا تشن حربًا بلا رحمة ضد شعبنا ووطننا، فإنهم رفضوا تقديم مساهمة للرياضة الفرنسية فى مسابقة لها قدرها عالميًا».

وتختتم المنظمة بيانها بإبداء رغبتها فى إنشاء اتحاد جزائرى لكرة القدم والانضمام إلى الفيفا. ويتذكر رشيد مخلوفى: «قلة من الفرنسيين يعرفون ما كان يحدث فى الجزائر. أدرك الفرنسيون عندما غادرنا أن هناك حربًا فى الجزائر.. حرب تحرير».


وبعد يومين من وصولهم إلى تونس، زار فرحات عباس، لاعبى الشتات. وشرح  لهم: «من الواضح أننا سنعطى أهمية قصوى لهذا الفريق، لأنه سيمثل من خلال مشاركاته فى الخارج صورة شعب يناضل من أجل استقلاله».

وعلى المروج الرديئة بملاعب العاصمة التونسية وبدون أى معدات رياضية حقيقية، يبدأ فريق المتمردين الهاربين المكون من عشرة لاعبين، على الفور، التدريب تحت قيادة بومزراق والعريبى، وكان ينقصه لاعب واحد فى مركز الدفاع، واكتمل المركز الشاغر بانضمام اللاعب حمادى الخالدى الذى يلعب فى  نادى الملعب التونسى.


وأقيمت المباراة الأولى للاعبين الملقبين  بـ « 11 الاستقلال» فى 9 مايو 1958، ضد المغرب فى ملعب الشاذلى زويتن  بتونس، كجزء من دورى شمال إفريقيا المسمى دورى بوحيرد (الذى سمى على اسم السجينة والمناضلة الجزائرية الشهيرة جميلة بوحيرد).

وفاز فريق جبهة التحرير الوطنى على المنتخب المغربى بهدفين مقابل هدف وحيد. ويتذكر رشيد مخلوفي: «كانت المنصة مليئة بالمقاتلين الجزائريين. وعندما رأيت علمنا يرتفع، وسمعت صوت النشيد، ومع إطلاق رجال المقاومة النار فى جميع أنحاء الميدان، قد انتابتنى مشاعر فياضة ». وقبل ذلك بيومين، قرر الفيفا، بضغط من الاتحاد الفرنسى لكرة القدم، إيقاف اللاعبين المنشقين ومعاقبة أى اتحاد أو فريق يوافق على مقابلتهم رسميًا.


والالتزام النضالى المطلوب من لاعبى كرة القدم، الذين تحولوا من نجوم فى فرنسا إلى لاعبين غير شرعيين غير معترف بهم من قبل الهيئات الرياضية، هو التزام كامل. وبينما يتمتع الجميع بشقة مفروشة فى تونس وراتب زهيد، يقدم لاعبو «11 الاستقلال» تضحيات كبيرة.

وهكذا، يجب على الشاب «السطيفى» المعجزة، رشيد مخلوفى، ألا يتخلى فقط عن فكرة المشاركة فى كأس العالم بالسويد، لكن كجندى، فإنه يواجه خطر المحاكمة العسكرية بتهمة الفرار من الخدمة.


ولكن بالنسبة لجميع اللاعبين، فإن خيار المنفى فى تونس والتخلى عن اللعب لنادى بالدورى الفرنسى الممتاز هو قبل كل شىء مفجع. يجب عليهم التخلى عن مستوى معيشى مريح نسبيًا  واعتراف رياضى وشهرة جماهيرية، بالإضافة إلى مهنة بعد الاعتزال وحياة أسرية وصداقات.

ولم تقتصر خسائر  مخلوفى عند هذا الحد، إذ لم يتمكن من حضور جنازة والدته فى سبتمبر 1959. وبالعودة إلى هذه الفترة، يؤكد مخلوفى أنه غير نادم: «أظهر انشقاقنا أن الشعب الجزائرى بأكمله كان مع جبهة التحرير الوطنى، لم نكن مرتزقة أو قطاع طرق. كانت علاقتنا جيدة مع الشعب الفرنسى.لم نكن ضد فرنسا بل ضد الاستعمار، ضد أولئك الموجودين فى الجزائر ويحتكرون ثرواتها».


فلاقة كرة القدم 
و(فلاقة هو مصطلح كان يُستخدم للإشارة إلى كل مقاتل جزائرى أومغربى أوتونسى حارب من أجل استقلال بلاده بين عامى 1952 و 1962، حيث كانت تلك البلدان آنذاك جزءًا لا يتجزأ من الأراضى الفرنسية).


وبعد النجاحات الرياضية الأولى فى مايو 1958 - سحق فريق جبهة التحرير الوطنى، من بين ما سحق من فرق، المنتخب التونسى بنتيجة 6 أهداف لهدف واحد - وبدأ سفراء قضية الاستقلال الجزائريون جولة دولية.

وبقميصهم الأبيض والأخضر، طار التشكيل الثورى إلى ليبيا فى يونيو 1958 حيث هزم فريقى طرابلس وبنغازى.وكدليل على أن جميع الفرنسيين لم يديروا ظهورهم لهؤلاء اللاعبين الساعين لاستقلال بلادهم، وخلال هذه الجولة الليبية، تلقى مصطفى زيتونى من السويد بطاقة بريدية ودية مؤثرة من لاعبى منتخب البلوز الفرنسى، ريمون كوبا.

وجوست فونتين، وروجر بيانتونى، وذلك فى خضم منافسات كأس العالم. وفى صيف عام 1958، تمرد لاعبو كرة قدم آخرون لتتسع دائرة اختيار جبهة التحرير الوطنى لدرجة أن الفريق بات يضم ما يصل إلى 32 لاعباً، كان من بينهم لاعبون يتمتعون بشهرة كبيرة مثل عبد الرحمن إبرير، حارس مرمى أولمبيك مرسيليا، والأخوان محمد وعبد الرحمن سخان لاعبا «لوهافر إيه سى».


وفى تحدٍ لحظر الفيفا، لعب فريق جبهة التحرير الوطنى، منذ عام 1958 وحتى استقلال الجزائر فى عام 1962، أكثر من 80 مباراة فى 14 دولة. وشارك الفريق على وجه الخصوص فى ثلاث جولات دولية كبرى كانت بمثابة ملاحم سياسية ورياضية.

وبعد سلسلة من ست مباريات صاخبة فى العراق خلال شتاء 1959، أدى اللاعبون فى أوروبا الشرقية، فى الفترة من مايو إلى يوليو 1959، نحو عشرين مباراة فى بلغاريا، ورومانيا، والمجر، وبولندا، والاتحاد السوفيتى، وتشيكوسلوفاكيا حيث قوبلوا بحفاوة بالغة من قبل الجماهير خلال المباريات التى نفدت تذاكرها بالكامل.

وبالنسبة لجبهة التحرير الوطنى الجزائرية، فإن هذه المباريات الدولية غير القانونية رسمياً بين فريقها وفرق البلدان «الشقيقة»، كانت بمثابة الخط الذى ينبغى أن يرسم شكل العلاقات الدبلوماسية المستقبلية للجزائر المستقلة.


من أجل الحفاظ على علاقات طيبة مع الفيفا، كانت الاتحادات الوطنية التى تستضيف «11 الاستقلال» تقوم بتمويه فرقهم الوطنية من خلال أندية محلية بسيطة، أو من خلال لاعبين فى دورى الشركات أوالنقابات العامة. وبغض النظر، يجب أن تكون كل مباراة، قبل كل شىء، بهدف تسليط الضوء على الثورة الجزائرية ويجب على الفريق أن يجسد الأمة المستقلة فى المستقبل.

ويصر المسؤولون التنفيذيون فى جبهة التحرير الوطنى - ولا سيما محمد علام، المفوض السياسى للجبهة  والذى يشرف على الخدمات اللوجستية للفريق - بشكل منهجى على رفع العلم وعزف النشيد الوطنى الجزائرى «قسما بالنازلات الساحقات»، رغم  أنه لم يكن رسميًا بعد.


وفى وارسو، وبعد تسكين لاعبى الاستقلال فى غرف غير صحية، رفضت السلطات البولندية رفع العلم الجزائرى خوفا من غضب جيرانهم الفرنسيين والاستبعاد من الفيفا. وبعد مشادة قوية، تم إخراج العلم وغناء النشيد.

ويتذكر رشيد مخلوفي: «عندما ذهبنا إلى الدول الشرقية أو العربية، كان السياسيون على علم بحربنا من أجل الاستقلال ولكن ليس السكان. وكان دورنا هو إعلام سكان البلدان التى زرناها.

ولكن علينا أن نحذر، فنحن لم نلعب كرة القدم فقط! بل ذهبنا لزيارة المصانع، وتناقشنا مع السكان، وشرحنا لهم ما كان يحدث فى الجزائر. كنا ذراع الثورة من خلال كرة القدم. بالإضافة إلى ذلك، ساعدتنا نتائجنا وطريقتنا فى اللعب بشكل كبير. فى كل مكان كان الجميع يتساءل: «ما هذا الفريق؟ من أين أتى هؤلاء الشياطين؟ كان لدينا فريق رائع بحق».


على الأرض، يلقى «أحد عشر الاستقلال»، من خلال كرة القدم، الضوء على تطلعات التحرر الجماعى للشعب الجزائرى.حيث تهدف لعبة فريق جبهة التحرير الوطنى الجزائرية، إلى أن تكون هجومية بشكل كبير مع احتلال كامل لكل أرجاء الملعب.

ويتم تناقل الكرة كثيرًا بين اللاعبين، ويظهر كل منهم حرية كاملة فى الارتجال والمراوغة، ويبلغ متوسط ​​عدد أهداف المنتخب الوطنى أربعة أهداف فى المباراة الواحدة. ويوضح مخلوفي: «على المستوى التكتيكى، لدينا نهج ثابت واحد: الهجوم ثم الهجوم.

وإن كنا قادمون من خلفيات مختلفة، فليس لدينا أى مشاكل فى الدمج بين بعضنا البعض لأننا نعيش معًا، ونتشارك نفس الأفراح ونفس الأحزان. كان لدينا الكثير من الظروف المثالية للعبة جماعية».


فى أكتوبر 1959، سافر لاعبو الاستقلال إلى جنوب شرق آسيا فى جولة استمرت عدة أسابيع، خاضوا خلالها اثنتى عشرة مباراة فى جمهورية الصين الشعبية وفيتنام الشمالية. وتمكن الجزائريون بجدارة وبراعة من الفوز على كل الفرق التى واجهتهم، وكانت ردة الفعل على هذا الأمر من الجنرال الفيتنامى «جياب»، مهندس الانتصار فى «ديين بيان فو» ضد المستعمر الفرنسى، حيث يؤكد لفريق جبهة التحرير الوطني: «لقد نجحتم فى الفوز علينا، لذا فمن المنطقى أن تحصلوا على استقلالكم».

ويتابع رشيد مخلوفي: «لقد فتحت هذه الرحلة لى آفاقًا جديدة». سياسياً، لقد شكلتنى من جديد. لقد لعبنا دور المبعوثين لدى لاعبين ومدربين وقادة رياضيين من الدول الأفريقية والآسيوية. كانت التجربة مثيرة بقدر ما كانت مؤلمة من الناحية الإنسانية».


وإذا كانت مغامرات لاعبى كرة القدم الجزائريين فى النضال بمثابة مدرسة للتدريب السياسى، فإن اللاعبين أنفسهم قد ضربتهم حالة من الإجهاد. فغالبًا ما تكون ظروف السفر والاستقبال متواضعة.

ويزداد التعب عند مواجهة فرق أقل فى الأداء والموهبة. وبمرور الوقت اندلعت التوترات داخل الفريق بشكل متكرر، حيث فقد طاقم جبهة التحرير الوطنى اهتمامهم بشكل تدريجى بحملة  رفع العلم الأخضر.

وتمت جدولة الجولة الرئيسية الأخيرة لفريق «11 الاستقلال» فى الفترة  من مارس إلى يونيو 1961 بحوالى 20 مباراة فى يوغوسلافيا وبلغاريا ورومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا. وفى ملعب فريق «ريد ستار»  ببلجراد.

وفى 29 مارس 1961، اقتحم محمد علام غرفة خلع الملابس وحذر لاعبى فريقه من أن السفير الفرنسى بنفسه موجود فى المدرجات. وبمزيد من الغضب والحماسة والرغبة فى إثبات الذات، فاز رجال الجزائر فى اللقاء بـ 6 أهداف مقابل هدف واحد  للمنتخب اليوغوسلافى الذى كان يعج بالنجوم وأحد المنتخبات اللامعة فى القارة الأوروبية. وقبيل نهاية المباراة، يتوارى السفير ويغادر، بينما يهتف جمهور بلجراد تضامناً مع المناضلين من أجل الاستقلال «الجزائر الحرة!».


وتم التوقيع على اتفاقات إيفيان بين الحكومة الفرنسية والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فى 18 مارس 1962، مما مهد الطريق لإعلان استقلال الجزائر فى 5 يوليو من نفس العام. أما الفيفا فقد اعترف فوراً بالمنتخب الجزائرى.فيما أبدت الأندية الفرنسية رغبة ملحة فى استعادة نجومها بأسرع وقت ممكن، بعد رفع الإيقاف عن اللاعبين «المتمردين».


وانضم ثمانية لاعبين من فريق جبهة التحرير الوطنى، من بينهم بوبكر ومخلوفى والزيتونى، إلى المنتخب الجزائرى الجديد الذى تم تشكيله عام 1963، أما معظم اللاعبين الذين كانوا يلعبون سابقا فى الدورى الفرنسى، فقد عادوا مرة أخرى إلى فرقهم. وقبل مغادرتهم، أدرك فرحات عباس دور «11 الاستقلال» فى تدويل النضال الوطنى الجزائرى من أجل التحرر، فقال لهم متأثراً: «لقد دفعتم الثورة عشر سنوات للأمام».

 

اقرأ ايضا | رندة صبري تكتب: الشغف بالمكتبات والبحث عن الكتاب لدى الرحالة المصريين المتجهين إلى أوروبا