محمد صبحى يكتب:«آل فابلمان» لستيفن سبيلبرج.. خطاب ساحر في حبّ السينما

شعار مهرجان القاهرة السينمائى الدولي
شعار مهرجان القاهرة السينمائى الدولي

افتتح مهرجان القاهرة السينمائي دورته الرابعة والأربعين، بعرض فيلم «آل فابلمان» أحدث أفلام المخرج ستيفن سبيلبرج، والذي يتناول طفولة المخرج الأمريكي وبداياته في عالم السينما.

وتحتل الطفولة مكانة مميزة في أفلام ستيفن سبيلبرج (75 عامًا). في بعض الحالات بشكلٍ مباشر، مثلما في أطفالٍ يضطلعون بأدوار البطولة ونزاعات أسرية تحتل صدارة موضوعات بعض أفلامه، كما في «E.T.» (1982) أو«إمبراطورية الشمس» (1987)؛ في حالات أخرى، كمصدر للإلهام، عاكسةً اهتمامات وشواغل نمّاها المخرج منذ بواكيره الواعية، كما في أفلام سلسلة إنديانا جونز وتقريبًا جميع أعماله في فئة الخيال العلمي.

وبرغم ذلك، لم يخصّص سبيلبرج فيلمًا واحدًا لرواية قصة طفولته. الآن تغيَّر هذا المعطى. صحيح أن عائلة فيلمه الجديد، آل فابلمان، تملك لقبًا مختلفًا عن المخرج، ولكن لا نيّة لإخفاء حقيقة أن هذه الشخصيات الخيالية صُمّمت على غرار عائلته وأن البطل سامى فابلمان ليس سوى الأنا السينمائية المتخيّلة لسبيلبرج ذاته.

ويقدّم الفيلم الجديد للمعلّم الأمريكى نظرة صادقة على التجارب والمحن والمباهج التى نشأ معها واختبرها فى سنوات طفولته ومراهقته، إنما قادمة عبر مرشّح حكائى متخيّل. فالبطل سامى فابلمان، تمامًا مثل سبيلبرج، انتقلت عائلته من نيوجيرسى إلى أريزونا واستقرت فى كاليفورنيا، حيث وقع هناك فى حبّ السينما.

وعمل على إتقان هوايته بمساعدة أصدقائه مبتكرًا تقنيات خاصة بالكاميرا. والفيلم يحتوى على المنطق الحاكم لذكريات المرء عن حياته الخاصة، حيث يمكن الشعور بألم حدثٍ ماضٍ كأنه طازج لا يزال بعد سنوات عديدة.

ولا تزال تطبعه الميلانكوليا الناتجة عن تلك الحقبة الضائعة ومَن عاشوها معه. مزيجٌ صعب ومراوغ لالتقاطه على الشاشة، خطوة محفوفة بالمخاطر وطموحة، مع احتمال كبير للفشل... إلا إذا كان سبيلبرج وراءها.


هناك شىء سخيف ومكرور تقريبًا حين الإشارة بإعجاب إلى ميزانسين أحد أهم صانعى الأفلام المعاصرين. لكن الحقيقة أن سبيلبرج تمكَّن من إثارة هذا الإعجاب مرارًا وتكرارًا؛ تاركاً المُشاهدين بأفواه مفتوحة مثل المرة الأولى التى رأوا فيها «الفكّ المفترس» (1975).

و"لقاءات قريبة من النوع الثالث» (1977) و"إنقاذ المجنّد رايان» (1998)، وغيرها من أفلامٍ صارت علامات وكلاسيكيات. العام الماضى، مع «قصّة الحيّ الغربى، أثبت قدرته على إنجاز فيلم موسيقى رائع، وها هو بعده بعامٍ واحد يقدّم فيلمًا شخصيًا وحميميًا.

بنفس الدرجة من الرقى الجمالى. اختياراته للّقطة وعناصرها، حركة الكاميرا (تلك اللقطات المقرّبة التى يحبّها كثيرًا)، إيقاع المونتاج.. كل شىء يملك إحساسًا سرديًا واضحًا ويسعى إلى ردّ فعل فورى من الجمهور، وهو بالطبع ما يحقّقه دائمًا.


يمكن المجادلة كثيرًا حول انحيازات سبيلبرج السياسية، لكن عندما يتعلّق الأمر بقدراته الفنية على تقديم سينما مبهرة ومؤثرة، فهذا أمر خارج التقييم أصلًا. هنا يستدعى سبيلبرج العديد من مساعديه المعتادين، من بينهم الملحّن جون ويليامز والمصوّر السينمائى يانوش كامينسكى.

والذى يعتبر عمله أساسيًا فى بناء تناسق وتماسك الفيلم؛ حتى مع تنوّع استكشافاته الموضوعية والنوعية. أما تونى كوشنر (الحائز على جائزة بوليتزر) فكانت لديه مهمة معقدة تتمثل فى كتابة سيناريو سينمائى عن حياة سبيلبرج بالمشاركة مع صاحب الشأن ذاته.

وحين رؤية النتيجة النهائية، يبدو أن كاتب السيناريو الموهوب، الذى تعاون مع سبيلبرج سابقًا فى كتابة «لنكولن» و"قصة الحىّ الغربى، كان الخيار الصحيح للعمل كوسيط ناظم وجامع بين ذاكرة شخصية والسردية الفيلمية المفترض أن تتحوَّل إليها.


 وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى الطريقة التى تعامل بها كاتبا السيناريو مع التحوّلات فى نبرة الفيلم ومِزاجه، بدءًا من الفكاهة المطلقة إلى الدراما العائلية. تحدث هذه التغييرات بطريقة عضوية، تُمليها البنية الدقيقة لوجهة نظر سامى، فى تحوّله المستمر أثناء نضجه، حين يكتشف أن عالم العائلة المثالى أكثر تعقيدًا مما يبدو، على الرغم من كونه محبوبًا دائمًا.


الحبّ هو الموضوع الرئيسى للفيلم، من العائلى مرورًا بالرومانسى وصولًا إلى الشغف المستمر بالسينما. يتعيّن على كل شخصية أن تتعامل مع كيفية تلاقى أو تصادُم مشاعرها بمشاعر الآخرين.

وتتنافس أنواع الحبّ المختلفة مع بعضها البعض وتتغذّى أيضًا على بعضها البعض. من الواضح فى «آل فابلمان» أن سبيلبرج نشأ محاطًا بالحبّ، حتى فى الأوقات الصعبة مثل نهاية زواج والديه. وأن حبّه للسينما كان قوة غامرة ومحدِّدة، كما سيتبيّن لاحقًا، أكبر بكثير من مجرد هروب من الواقع، بل عينًا ثالثة يرى بها الحياة ونفسه والحقيقة.


يجسّد دور والدى سامى فابلمان كلّ من ميشيل ويليامز وبول دانو، ورغم إجادتهما التمثيلية الواضحة إلا أن اختيارهما ذاته مثَّل انحرافًا عن الواقعية السائدة فى الفيلم، فى سبيل مناسبة الاحتياجات الخاصة لوجهة النظر التى تُسرد القصة عبرها.

ويلعب الممثلان دور شخصيتين شغلتا مكانة وموقعًا شاعريًا بقدر ما يصعب على طفلهما سامى التعاطى معهما كوالدين. ويليامز، التى تكرّس نفسها لدورها بشكل مكثف، ودانو، الذى يستعير إيماءات من سبيلبرج نفسه لشخصيته، يعايران عملهما فيما تتكشّف القصة وتتجلّى إنسانية كلاهما أمام عينى سامى.


أما الممثل الشابّ جابرييل لابيلا فقد واجه التحدى الأصعب على الإطلاق؛ لعب دور سبيلبرج فى مراهقته تحت إدارة سبيلبرج. يجب أن يكون السينمائى العجوز أكثر من راضٍ عن عمل الممثل الشاب، الذى يحمل الفيلم بانطلاق ويُسر ويتنقل بسهولة فى جميع المشاعر المعقدة، والمرسومة بدقّة فى السيناريو. يقنع لابيلا الجمهور أن سامى الذى يجسّده يحمل إمكانية أن يصبح سبيلبرج الذى نعرفه.


بالمثل، ليس صعبًا استنتاج الحبّ والعناية اللذين أتمّ بهما الممثلين المساعدين تجسيد أدوار عائلة المخرج وأصدقائه؛ وهم يقومون بأكثر من مهمتهم. يحصل سيث روجان على شخصية غامضة بعض الشيء، فقط لأن سامى يراها على هذا النحو.

وتنتقل من كونها أفضل صديق مضحك للأبّ إلى مُحفّز لانفصال الزوجين. يلتهم الممثل الكوميدى الأسطورى جود هيرش التسلسل الصغير الذى يظهر فيه، ويلعب دور عمّ غريب الأطوار يأتى إلى منزل العائلة ويتحدث إلى سامى حول معنى الارتباط بالفنّ إلى الأبد.

وتضفى جينى برلين لمسة من الفكاهة اللاذعة على شخصية إحدى الجدّات، وتلعب جوليا باتيرز (الطفلة المذهلة من فيلم «ذات مرة فى هوليوود» لكوينتين تارانتينو) دور إحدى أخوات سامى الصغيرات، لتثبت أن تألّقها فى فيلم تارانتينو لم يكن من قبيل الصدفة.


«آل فابلمان» فيلم مؤثر ومثير للمشاعر، ليس بسبب تأثيره المستمر بعد انتهائه وإطلاقه العنان لتأمّل المرء فى حياته الخاصة، وإنما كعمل أصيل قادر على توليد عاطفة صميمة تنشأ عندما يروى حكّاء قدير حياته ويستكشف كيف ساعدته قوة السينما على رؤية الحقيقة.

وسيكون لموضوعى العائلة والزواج صدى لدى معظم المشاهدين؛ لكن الطريقة التى يؤطَّر بها الفيلم علاقة سامى/ سبيلبرج بالسينما، عاطفية بامتياز، لأولئك المعجبين بسينما المخرج مثلما لأولئك الذين يحبون السينما ككل.

واستمتع المخرج باستعادة أفلام عّدة (سوبر 8) صوّرها عندما كان مراهقًا، مستعينًا بشقيقاته وزملاء الكشافة كطاقم تقنى وتمثيلى؛ وفى تلك الاستجمامات والتسليات، الآن مع موارد أكبر، من الواضح أنه لم يفقد أبدًا حماسه للتصوير.


مشاهدة استحضار بدايات وتطوّر أحد أعظم المخرجين فى التاريخ، فى فيلم أنجزه بنفسه؛ تجربة تسكن مباشرة قلوب عشّاق ومحبّى السينما. كما هو الحال مع المشهد الأخير من الفيلم، المكتنز بالفكاهة، وبشخصية لا تُنسى من الأفضل عدم الكشف عنها، تُختتم القصة بدعابة بصرية تلخّص ما نعرفه بالفعل: عندما يتعلّق الأمر بالسينما، يفهم سبيلبرج كل شىء.

اقرأ ايضا | عائشة المراغى تكتب: «بيلا تار» كامل العدد في مهرجان القاهرة السينمائي