محمود الوردانى يكتب : فى رفقة خيرى شلبى ( 2- 2 )

محمود الوردانى يكتب : فى رفقة خيرى شلبى ( 2- 2 )
محمود الوردانى يكتب : فى رفقة خيرى شلبى ( 2- 2 )

[email protected]

 أواصل هنا ماسبق أن بدأته حول صديقي الكبير خيري شلبي في ذكراه.
 لم يكن لديه إلا همّ واحد سيطر عليه وملك عليه نفسه: أن يصبح كاتبا. وإني لأدهش كيف استطاع جسمه أن يتحمل تلك الساعات الطويلة على مدى أيام وشهور وسنوات من الانحناء على إحدى المناضد والكتابة والقراءة، وفي الوقت نفسه الذود عن مكانه، حيث تعلّم عشرات الحيل والألاعيب لمقاومة المتطفلين والمناوشين والراغبين في تعطيله، إلا أنه كان ينجح في نهاية الأمر في تحرير تلك الأمتار القليلة جدا ليكتب ويقرأ بينما صوت التليفزيون أو الراديو على آخره!


كان يحفظ ويردد آلافا من عيون الشعر العربي القديم، وقصائد المعروفين والمجهولين( هناك مثلا عشرات الشعراء والزجالين المجهولين الذين عرفهم عندما أقام  في الإسكندرية) وأغاني الفلاحين ومواويلهم، ومازالت ذاكرته الحديدية تحتفظ بها طازجة وقادرة على إثارة الدهشة.


رفض تماما أن يشاركنا في سنوات المقاطعة لأجهزة النشر الرسمية أو التوقيع على بياناتنا الاحتجاجية، أو الاشتراك معنا في أي عمل يمكن أن يشير من قريب أو بعيد إلى وقوفه معنا، وكان يحتفظ بعلاقات متينة ودائمة بكل من نتجنبهم من المتنفذين والمسئولين الرسميين الذين كنا لانخفي احتقارنا لهم.


على الرغم من كل ذلك، إلا أنني أعترف له بالكثير. ليس فقط ذلك الإصرار والتحمل من أجل الكتابة، بل فتح لي أيضا الطريق نحو السير الشعبية، وكان أول من رأيته عاكفا على قراءة مؤرخي العصر الوسيط مثل المقريزي وابن إياس وابن تغر بردي وغيرهم.


اما المتعة الوحيدة التي كان يدفع من أجلها آخر قرش معه فهي شراء الكتب. في إحدى ليالي الشتاء الماطرة، كنت مع خيري في الطريق إلى بيته في المعادي، ولطالما استضافني هو والسيدة الفاضلة زوجته.

وفي محطة باب اللوق، كان يتقدم حاملا حِمل بعير من الكتب، من بينها أجزاء من مختارات أدونيس للشعر العربي، وأحد مجلدات الجاحظ وأجزاء من النجوم الزاهرة ولطائف المنن للشعراني، وكنا قد أمضينا وقتا وهو يساوم صاحبها على سور الأزبكية ( كانت إمكاناته في الفصال والمساومة فظيعة) وفي الوقت نفسه رأينا علاء الديب يتقدم نحونا مرتديا معطفا صوفيا ويديه في جيوبه متجها إلى المترو حيث كان يسكن في المعادي أيضا. توقف مندهشا وقد فتح عيونه على اتساعها، ثم ابتسم بوقار شديد قائلا: ويخلق ما لاتعلمون!


أما جولاتنا المشتركة، فكشفت لي أن هناك مدينة داخل المدينة يستطيع خيري الوصول إليها دوما. لو بدأ من سوق الخضار بالعتبة، حيث هناك أكثر من محطة أوغُرزة صغيرة داخل السوق المزدحم، ومنها يختار الانطلاق في قوسين: الأول يضم درب سعادة والحمزاوي والدرب الأحمر والباطنية وصولا إلى الغورية. والثاني إذا انعطف يسارا إلى باب الشعرية ثم باب الفتوح وقسم الجمالية وخان الخليلي والعطوف وزقاق المدق وأم الغلام، وقبل كل ذلك حارة اليهود والصاغة ومجموعة السلطان قلاوون.


وفي وقت ما في أواسط السبعينيات أشاع ابراهيم منصور على مقاهينا أن خيري أولم على شرف عبد الوهاب البياتي وليمة بط، ووجه الدعوة نيابة عن خيري لكل من يقابله. الحكاية حقيقية وليست من بنات أفكار ابراهيم، لكن الدعوة كانت مقصورة على ثلاثة فقط: البياتي وابراهيم وأنا.

وكان مقررا ان ننطلق نحن الأربعة من مقهى ريش في موعد محدد، وفي الموعد تقاطر العشرات من أصدقائنا وازدحمت بهم ريش. اكتشف خيري الملعوب وهو في الشارع قبل أن يلمحه أولئك المدعوون، فسارع بالفرار بالطبع، فقد كان عدد من دعاهم ابراهيم منصور يفوق الخيال!! 

اقرأ يضا | محمود الوردانى يكتب :فى رفقة خيرى شلبى (1- 2)