خواطر الإمام الشعراوي.. ابتغاء مرضات الله

الشيخ الشعراوي
الشيخ الشعراوي

يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول سورة البقرة فى قول الحق تبارك وتعالى فى الآية 207:»وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» قائلا: والله سبحانه وتعالى ساعة يستعمل كلمة (يشري) يجب أن نلاحظ أنها من الأفعال التى تستخدم فى الشيء ومقابله، ف (شرى) يعنى أيضا (باع). إذن، كلمة (شرى) لها معنيان، واقرأ إن شئت فى سورة يوسف قوله تعالى: «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ» «يوسف: 20».

أى باعوه بثمن رخيص. وتأتى أيضا بمعنى اشترى، والسياق والقرينة هما اللذان يحددان المعنى المقصود منهم.. «وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ» ونفهم (يشري) هنا بمعنى يبيع نفسه، والذى يبيع نفسه هو الذى يفقدها بمقابل. والإنسان عندما يفقد نفسه فهو يضحى بها، وعندما تكون التضحية ابتغاء مرضاة الله فهى الشهادة فى سبيله عز وجل، كأنه باع نفسه وأخذ مقابلها مرضاة الله.

ومثل ذلك قوله تعالى:»إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ» «التوبة: 111». إن الحق يعطيهم الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم. إذن فقوله: «وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله» يعنى باع نفسه وأخذ الجنة مقابلاً لها، هذا إذا كان معنى (يشري) هو باع.

وماذا يكون المعنى إذا كانت بمعنى اشترى؟ هنا نفهم أنه اشترى نفسه بمعنى أنه ضحى بكل شيء فى سبيل أن تسلم نفسه الإيمانية. ومن العجب أن هذه الآية قيل فى سبب نزولها ما يؤكد أنها تحتمل المعنيين، معنى (باع) ومعنى (اشترى) فها هو ذا أبو يحيى الذى هو صهيب بن سنان الرومى كان فى مكة.

وقد كبر سنه، وأسلم وأراد أن يهاجر، فقال له الكفار: لقد جئت مكة فقيراً وآويناك إلى جوارنا وأنت الآن ذو مال كثير، وتريد أن تهاجر بمالك.فقال لهم: أإذا خليت بينكم وبين مالى أأنتم تاركوني؟فقالوا: نعم.قال: تضمنون لى راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟قالوا: لك هذا.. إنه قد شرى نفسه بهذا السلوك واستبقاها إيمانياً بثروته، فلما ذهب إلى المدينة لقيه أبو بكر وعمر فقالا له: ربح البيع يا أبا يحيى.قال: وأربح الله كل تجارتكم.. وقال له سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن جبريل أخبره بقصتك، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: ربح البيع أبا يحيى.


إذن معنى الآية وفق هذه القصة: أنه اشترى نفسه بماله، وسياق الآية يتفق مع المعنى نفسه. وهذه من فوائد الأداء القرآنى حيث اللفظ الواحد يخدم معنيين متقابلين.. ولكن إذا كان المعنى أنه باعها فلذلك قصة أخرى، ففى غزوة بدر، وهى أول غزوة فى الإسلام، وكان صناديد قريش قد جمعوا أنفسهم لمحاربة المسلمين فى هذه الغزوة.

وتمكن المسلمون من قتل بعض هؤلاء الصناديد، وأسروا منهم كثيرين أيضا، وكان مِمَّنْ قتلوا فى هذه الغزوة واحد من صناديد قريش هو أبو عقبة الحارث بن عامر والذى قتله هو صحابى اسمه خبيب بن عدى الأنصارى الأوسي.

وهو من قبيل الأوس بالمدينة، وبعد ذلك مكر بعض الكفار فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: يا رسول الله، إننا قد أسلمنا، ونريد أن ترسل إلينا قوما ليعلمونا الإسلام. فأرسل لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة من أصحابه ليعلموهم القرآن، فغدر الكافرون بهؤلاء العشرة فقتلوهم إلا خبيب بن عدي.

استطاع أن يفر بحياته ومعه صحابى آخر اسمه زيد بن الدَّثِنّة، لكن خبيباً وقع فى الأسر وعرف الذين أسروه أنه هو الذى قتل أبا عقبة الحارث فى غزوة بدر، فباعوه لابن أبى عقبة ليقتله مقابل أبيه.فلم يشأ أن يقتله وإنما صلبه حياً، فلما تركه مصلوباً على الخشبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى المدينة: من ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟ قال الزبير: أنا يا رسول الله.وقال المقداد: وأنا معه يا رسول الله.

فذهبا إلى مكة فوجدا خبيباً على الخشبة وقد مات وحوله أربعون من قريش يحرسونه، فانتهزا منهم غفلتهم وذهبا إلى الخشبة وانتزعا خبيباً وأخذاه، فلما أفاق القوم لم يجدوا خبيباً فقاموا يتتبعون الأثر ليلحقوا بمن خطفوه، فرآهم الزبير، فألقى خبيباً على الأرض، ثم نظر إليه فإذا بالأرض تبتلعه فسمى بليع الأرض.

وبعد ذلك التفت إليهم ونزع عمامته التى كان يتخفى وراءها وقال: أنا الزبير بن العوام، أمى صفية بنت عبد المطلب، وصاحبى المقداد، فإن شئتم فاضلتكم يعنى يفاخر كل منا بنفسه وإن شئتم نازلتكم يعنى قاتلتكم وإن شئتم فانصرفوا، فقالوا: ننصرف، وانصرفوا، فلما ذهب الزبير والمقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرهم بالجنة التى صار إليها خبيب.

إذن فقد باع خبيب نفسه بالجنة. وعلى ذلك فإن ذهبت بسبب نزول الآية إلى أبى يحيى صهيب بن سنان الرومى تكون (شرى) بمعنى اشترى، وإن ذهبت بسبب النزول إلى خبيب فتكون بمعنى: باع.. وهكذا نجد أن اللفظ الواحد فى القرآن الكريم يحتمل أكثر من واقع.

وخبيب بن عدى هذا قالت فيه ماويّة ابنة الرجل الذى اشتراه ليعطيه لعقبة ليقتله مقابل أبيه، قالت: والله لقد رأيت خبيباً يأكل قطفا من العنب كرأس الإنسان! ووالله ما فى مكة حائط بستان ولا عنب وإنما هو رزق ساقه الله له.


ولما جاءوا ليقتلوه قال: أنظرونى أصلِّ ركعتين. فصلى ركعتين ونظر إلى القوم وقال: والله لولا أنى أخاف أن تقولوا إنه زاد فى الصلاة لكى نبطئ بقتله لزدت. وقال قبل أن يقتلوه: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. ثم هتف وقال:
ولست أبالى حين أقتل مسلماً
على أى جنب كان فى الله مصرعى
وكان ذلك آخر ما قاله.. ويقول الحق: «والله رَؤُوفٌ بالعباد» وما العلاقة بين ما سبق وبين رءوف بالعباد؟ مادام الله رءوفاً بالعباد فلم يشأ الله أن يجعل ذلك أمراً كلياً فى كل مسلم، وإنما جعلها فلتات لتثبت صدق القضية الإيمانية، لأنه لا يريد أن يضحى كل المسلمين بأنفسهم، وإنما يريد أن يستبقى منا أناساً يحملون الدعوة.

اقرأ ايضا

 مستشار المفتي يتوجَّه لواشنطن لعرض تجربة «الدار» في مكافحة الفكر المتطرف