في ذكراه الـ13 .. خفايا «الست» في مفكرة «عندليب» الصحافة

غلاف «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد» _  محمود عوض
غلاف «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد» _ محمود عوض

في 28 أغسطس من عام 2009، توقف قلب «عندليب الصحافة» عن النبض، سكتت أنفاسه المتمردة دوما، وسقط القلم اللامع الساحر الرشيق من يده، طويت أوراق عمره التي لم يتوقف خلالها لحظة واحدة عن الكتابة والنقد والتحليل والإبداع والاشتباك مع الواقع، انطفأ نورالنجم المشع في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة وأدركنا حجم الخسارة، 13 عاما مضت على رحيل الكاتب الكبير محمود عوض، وما يعزينا ما تركه خلفه من تلال المقالات التى كتبها فى الصحف المصرية والعربية وعشرات الكتب التى أثرى بها المكتبة العربية.


لن نتحدث عن حياة «عندليب الصحافة»، ونفضل ان نقدم لقراء «كنوز» رشاقة كلماته فى واحد من مقالاته التى كتبها عن سيدة الغناء العربى أم كلثوم، التى كتب عنها كتابا بعنوان: «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد»، وفعلا عرفها وقدمها لنا فى جانبها الفنى والإنسانى.. فقال:
لم اكن انظر الى أم كلثوم أبدا كإنسانة ضعيفة، رأيتها دائما كإنسانة عاشت خمسين سنة من حياتها على الصفحة الأولى، من يومها الأول فى القاهرة وهى تعلم ان مهمتها هى أن تذهب مع الحياة إلى أعلى تماما، أو إلى اسفل جدا، فى حياة أم كلثوم لحظات كثيرة خفية تعرضت فيها من الحياة إلى خطر الهزيمة النهائية، ومع ذلك كانت المهمة أمامها واضحة، مع الحياة، إلى أعلى، أو إلى أسفل، لا شيء فى الوسط، وأم كلثوم لم تكن وسطا فى أى شيء، فى البداية فقيرة جدا، ثم بعدها فى العشرينيات مطربة، فى الثلاثينيات موهبة، فى الاربعينيات نجمة، فى الخمسينيات كوكب الشرق، فى الستينيات أسطورة، فى السبعينيات عنيدة، وجريحة ايضا.

فى حياة أم كلثوم لم يكن هناك شيء مؤجل سوى الفقر، ولا اتذكر من الذى قال «انك إذا ذقت الفقر مرة فإنك لن تكون غنيا مطلقا»، وأم كلثوم لم تكن تحس بأنها غنية مطلقا، معها نقود الاغنياء ولكن ليس فيها غطرستهم، فى شخصيتها مزيج من النار والهواء، فى صوتها المطر والشمس، فى عمرها الطول والقصر، فى حياتها البساطة والانغلاق، فى منزلها الصمت والضجة، العزلة والزحام، الفقر والغنى معا.

كان العد التنازلى فى علاقتى بأم كلثوم قد بدأ منذ اللقاء الثانى، جئت بناء على طلبها وإصرارها، لكى اقرأ عليها بروفة مقالى عنها فى الصفحة الاخيرة بجريدة «أخبار اليوم»، لم أكن مستريحا من البداية، فلم اتعود أن اقرأ مقالا على الشخص موضوع المقال، لكنها أم كلثوم، ورؤساء التحريرحريصون على ارضائها، قاطعتنى من السطر الاول بقولها «ما هذه البداية، هذه جملة ناقصة، ألا تتكون الجملة من مبتدأ وخبر، هذه الجملة خبر بلا مبتدأ»، أغلقت الاوراق قائلا «هذا صحيح، ولكن قبل ان اواصل القراءة علينا ان نتفق اولا.. من منا يغنى افضل من الآخر؟»، تمتمت «بالطبع أنا»، قلت «إذن ضعى فى اعتبارك اننى أفهم فى الكتابة أكثر»، وللحظات معدودة ازدحم الهواء بيننا بما هو أخطر من ماس كهربائى، لكن أم كلثوم قطعت الصمت بقولها «معقول.. طيب.. فلنكمل القراءة»، وأكملنا، وحينما غادرت منزلها عائدا الى مكتبى كنت أقدر اننا لن نلتقى ابدا، لكن التليفون فى اليوم التالى حمل الى صوتها، تكلمت بتركيز واختصار، وبمجرد أن انتهت المكالمة، أحسست اننى أريد أن أغنى، ومن تلك المكالمة بدأ مشوارى الطويل معها.

تليفون من مصطفى امين: «الصحفيون ممنوعون من دخول مستشفى المعادى لمتابعة أخبار الحالة الصحية لأم كلثوم.. أريدك ان تأخذ فريقا من المحررين وتوزع عليهم العمل، إن لدينا أم كلثوم واحدة فى العالم العربى، وتستطيع ان تقنع اسرتها بأننا كصحفيين مطالبون أمام الرأى العام بمتابعة حالتها الصحية»، عندما وصلت كنت قد أصبحت أنا نفسى مريضا، الصمت والهدوء والقلق والتوتر وغرفة الانعاش يسمونها «وحدة العناية الفائقة بمرضى القلب»، لم أجرؤ على الدخول او حتى مجرد النظر، إذن فلأذهب إلى الغرفة 501 حيث يوجد بعض افراد الاسرة، ربما يوجد شيء مطمئن، الطوارئ، التليفونات، القلق، رئاسة الجمهورية على التليفون للمرة العاشرة، محمد عبد الوهاب وأخرون وأخرون وأخرون، ان تكون قريبا من ام كلثوم معناه ان تعيش فى دنيا ام كلثوم التى هى الغناء الذى كان هو فكرتها الاولى عن الحياة، اللغة داخل منزلها كانت دائما عن موعد البروفة، وموعد التسجيل، وموعد الحفلة، أم كلثوم فى المستشفى، ونحن بالغرفة 501 نثرثر بكلمات لا معنى لها، وماتت أم كلثوم لأن الإنسان خلق ضعيفا!

«عاشت أم كلثوم خمسين سنة من حياتها فى الصفحة الأولى»، كانت تلك بعض الكلمات التى كتبتها فى مناسبة رحيلها عام 1975، كلمات أضاف الزمن إليها أشياء وخصم منها أشياء، خصم الزمن وفاء بعض الاقرباء، فى نفس اللحظة التى تراكمت فيها مشاعر الغرباء، لم يعد هناك ذلك المبنى الشهير على نيل حى الزمالك بالقاهرة باسم «فيلا أم كلثوم»، الورثة قاموا ببيعه إلى أحد المستثمرين فى صفقه أعطت من المال بقدر ما سحبت من المشاعر، وتعلل الكثيرون بأن الدولة هى التى كان يجب أن تشترى الفيلا من حر مالها حتى تجعلها متحفا يحمل اسمها، والدولة لم تقصر فى السعى إلى شراء فيلا أم كلثوم، فقط طلبت من الورثة ان يتعاونوا معها حتى لا تكون الصفقة مجرد بيع وشراء، وانتهت الصفقه بنفس النهاية الكلاسيكية فى كل مرة، انتهت بلا شىء! ويتساءل البعض عن مشروع دار أم كلثوم للخير!


هذا المشروع له خفايا عديدة، لكن بدايته كانت بلا خفايا، بدايته كانت واضحة، قامت أم كلثوم بدعوة عدد من اصدقائها الذين تثق فيهم لكى تعرض عليهم فكرة ان تقيم دارا خيرية لتعليم الفتيات اليتامى أشغال التطريز والحياكة، وقالت لنا انها رصدت للمشروع ما بين عشرين إلى ثلاثين الف جنيه، وخلال دقائق تحولت الفكرة إلى مجرى آخر عندما قال عثمان احمد عثمان: «عشرين الف جنيه وثلاثين الف جنيه ايه يا ست، بقى أم كلثوم كوكب الشرق لما تعمل مشروع تعمله بعشرين الف جنيه! ومن جيبها! ليه؟ خلاص مفيش وفاء؟ مفيش خير فى البلد؟»، قالت أم كلثوم «عايز تقول ايه يا عثمان؟»، فقال «أم كلثوم لما تعمل مشروع يبقى لازم يكون فيه مسرح ومتحف وقاعة حفلات واستديو ولوكانده وسينما، حاجة كده لا تقل عن مليون جنيه»، قاطعه أحد الحاضرين بانزعاج «مليون جنيه؟ طيب وأم كلثوم تدفع ده منين؟»، قال عثمان «ومين قال إن أم كلثوم تدفع مليم واحد من جيبها، احنا نعمل يانصيب، قيمة التذاكر فيه مليون جنيه، ونقول ده عشان مشروع أم كلثوم الخيرى، وبعدها شوفوا الناس حتدفع كام، وكفاية الامراء العرب، مش كده يا ست؟». وفى اليوم التالى قالت لى أم كلثوم «لماذا كنت صامتا أمس؟»، فقلت «إننى مع الفكرة الاساسية التى بدأ بها الاجتماع، ولكنى لست مع الفكرة الاخرى التى تطور اليها، فحينما تخرج ام كلثوم إلى الناس لكى تقول لهم إننى سأقيم مشروعا خيريا بهذه العشرين الف جنيه من مالى الخاص، سيتفهم الناس الرسالة التى تريد ام كلثوم أن تقولها، اما حينما تخرج لكى تقول لهم اننى أريد ان اقيم برجا ضخما على شاطئ النيل يحمل اسمى، ولكنه سيتم باموالكم، فهذا شيء اخر يختلف تماما»، وسار المشروع بعد ذلك فى دهاليز عديدة وعبرت مياه كثيرة نيل الزمالك بالقاهرة حيث (كانت) توجد فيلا أم كلثوم التى كانت تنطلق بصوتها قويا شجيا على خشبة المسرح، وفيما وراء خشبة المسرح كانت الفنانة الريفية البسيطة التى تعرف أن الوطنية انتماء.. وليست هتافات.

محمود عوض