استعادة ذكرى فيلسوف العلوم مصطفى لبيب

د. سعيد توفيق  د. مصطفى لبيب
د. سعيد توفيق د. مصطفى لبيب

سعيد توفيق

ستظل السيرة الأخلاقية لمصطفى لبيب سيرة عطرة باقية فى نفوس كل من عرفوه عن قرب، ولكن سيرته العلمية قد تتوارى بحكم الزمان الذى يطوى العلماء والفلاسفة والمبدعين الذين كان قدَرَهم ألا ينالوا حظًا من الشهرة، خاصةً حينما يكون هذا الزمان ضنينًا، كزماننا هذا، فلا يحتفى بالمبدعين الحقيقيين ويكاد ينساهم، فى حين أنه يفسح مجالًا واسعًا للصغار والمزيفين ما داموا يروجون لأنفسهم فى كل مكان. وأود هنا الإشادة بهذه الصفحة الثقافية التى يترأس تحريرها المثقف الوطنى المخلص صاحب الضمير الحى الأستاذ عمرو الديب؛ إذ تحرص هذه الصفحة على إحياء ذكرى المبدعين على الأصعدة الثقافية كافة، كما تحرص على اكتشاف المواهب الشابة وتشجيعها، بل إنها تحرص- فى الوقت ذاته- على الكشف عن عورات واقعنا الثقافي، والإشادة بكل الجهود المخلصة التى تجرى فى هذا الواقع.

من هذا المنطلق، فإننى أود أيضًا الإشادة بمشروع دار بتَّانة فى إحياء مجمل الإنتاج الفلسفى للعالم الجليل الدكتور مصطفى لبيب، بما فى ذلك مجمل مقالاته.

وقد قامت هذه الدار بالفعل بإصدار ثلاثة من مؤلفاته عن فلسفة الطبيعة وعن التصور الإسلامى للطبيعة. وأذكر أننى فى أثناء حفل تأبينه بكلية الآداب بجامعة القاهرة قد طالبت بأن تتولى الكلية تجميع مقالاته على الأقل ونشرها، كان ذلك منذ ست سنوات، ولكن يبدو أن مقولة «لا كرامة لنبى فى وطنه» تظل مقولة صحيحة. ومما يبعث على الأسى أن معظم أبناء جيل الشباب من المتخصصين فى الفلسفة- ناهيك عمن يُحسبون على الثقافة عمومًا- لا يعرفون شيئًا عن هذا العالم الجليل، وربما لا يسمعون باسمه، رغم أنه صاحب إنتاج علمى رصين غزير بلغ أكثر من خمسين دراسة منشورة فى مجلات مرموقة ودوريات علمية محكمة، وله مثل هذا العدد من الكتب تأليفًا وترجمةً وتحقيقًا.

وبطبيعة الحال، فإننى لا أهدف من وراء هذا إلى الاعتداد بعدد الكتب المنشورة كمعيار على قيمة صاحبها ومكانته العلمية، فما أيسر نشر الكتب- خاصة الكتب الجامعية- فى زماننا هذا. ولكن مؤلفات مصطفى لبيب -على كثرتها- تعد مؤلفات فريدة فى مجال فلسفة العلوم، وخاصة فلسفة العلوم عند العرب. وهذا ينطبق أيضًا على مقالاته الرصينة المنشورة فى المجلات والدوريات المرموقة. والحقيقة أننى أعتبر نشر هذا النوع من المقالات، لا الكتب، هو ما يشكل معيارًا لمكانة المؤلف، وهو معيار معمول به فى الجامعات المتميزة فى الغرب.

وأود فى هذا السياق أن أصارح القارئ بأننى لم أتعرف على غزارة الإنتاج العلمى لمصطفى لبيب إلا حينما طالعت سيرته الذاتية بعد وفاته. كنت بالتأكيد أعرف قدره ومكانته العلمية، ولكنى لم أكن أدرى بغزارة إنتاجه، رغم صداقتنا الطويلة الحميمة، ربما بسبب غربتى عن مصر حوالى عشر سنوات كانت من أخصب سنوات إبداع مصطفى لبيب. والواقع أن هذا يدل بوضوح على شيء من تواضع هذا العالم الجليل (بجانب مآثره الشخصية الأخرى التى أفصحت عنها فى رثائى له من قبل)، فهو لم يكن يبلغنى بأنه أنتج كذا وكذا من الدراسات، ولم يكن يحرص على الترويج لمؤلفاته ودراساته. هذا الإنتاج العلمى الغزير الرصين هو ما يؤهِّل مصطفى لبيب لكى يكون واحدًا من أهم أساتذة فلسفة العلوم الحقيقيين بجانب رفاقه الكبار من المصريين أمثال الأساتذة: أحمد فؤاد باشا ورشدى راشد.


   ولهذا كله، فإنى أشيد بمبادرة الدكتور عاطف عبيد -صاحب دار بتَّانه- فى تجميع مجمل إنتاجه ونشره، وأتمنى على هذه الدار أن تواصل هذا التوجه فى نشر ما هو رصين من الإنتاج الثقافى والإبداعي، وأن تحافظ على هذا المستوى الرفيع من النشر بمنأى عن أية أعمال رديئة. فذلك هو ما سيبقى على الدوام.