إنها مصر

ذكريات

كرم جبر
كرم جبر

كتبت هذه القصة وسوف أكررها ما حييت، فالصحافة هى مهنة التواصل والمهنية والتعلم من شيوخ المهنة والحفاظ على قدرهم، والمزج بين مختلف الأجيال والخبرات، ، وأدين لأستاذى المرحوم فتحى غانم بفضل كبير فى توجيه دفة  حماسى الصحفى نحو الضوابط المهنية، وكان دائماً يذكرنى بعبارة يقولها: السبق الصحفى الكاذب انتحار مهنى.


طلب منى ذات يوم عام 1988، أن أذهب إلى أسيوط لنعرف ماذا يحدث فيها، ولا تكتب رأيك الشخصى إلا فى النهاية، منفصلاً عن التحقيق الصحفى، ماذا يدور فى عقول طلاب الجماعة الإسلامية، ولماذا احتلوا الجامعة وطردوا الأمن، نريد أن نعرف ما يريدونه وليس ما تريده أنت، وكان الأستاذ فى ذلك الوقت فى  روزاليوسف.


كانت أسيوط فى ذلك الوقت تموج بالمظاهرات فى أعقاب قيام أحد المخبرين بإطلاق الرصاص على طالب اسمه شعبان، فدخل فى غيبوبة وأمر الرئيس مبارك بنقله إلى مستشفى المعادى للقوات المسلحة، وانقلبت الجامعة رأساً على عقب.
ذهبت إلى أسيوط وكان أول من قابلته الدكتور محمد حبيب نائب المرشد ورئيس نادى أساتذة الجامعات فى ذلك الوقت، وأجريت معه حواراً طويلاً، ثم طلبت وساطته لمقابلة أعضاء الجماعة الإسلامية.. وحدث بالفعل، وقابلت بعد ذلك المحافظ الأسبق اللواء سامى خضير رحمه الله.
ذهبت إلى المسجد الذى يصلى فيه أعضاء الجماعة فى منطقة اسمها شارع شركة "قلته" بعد صلاة العشاء، وكان الشارع مظلماً تماماً، وسيارات الشرطة الكبيرة الممتلئة بالجنود فى كل مكان.
دخلت المسجد المظلم إلا من أضواء الشموع وبعد الصلاة جلست مع الطلاب بعد أن تأكدوا من شخصيتى، واتفقنا على تسجيل الحوار من الجانبين، وسألتهم وأجابوا وكتبت ما دار بأمانة تامة، وكانت التحقيقات الصحفية على مدى ثلاث حلقات تحت عنوان "أسيوط فى ذمة الجماعات الإسلامية"
    بعدها بأيام أشاد الكاتب الصحفى الكبير إبراهيم الوردانى فى عموده "صواريخ" بجريدة الجمهورية بالتحقيقات قائلاً: إذا أردتم أن تعرفوا ماذا يحدث فى أسيوط اقرأوا ما كتبه الصحفى الشاب الواعد كرم جبر.
علمت بعدها أن الرئيس مبارك غضب من العنوان "أسيوط فى ذمة الجماعات الإسلامية"، وعندما زار أسيوط بعدها بشهور كان مقرراً أن يسير موكبه الشعبى وسط المدينة إلى مبنى الحزب، ولكن تم اختزال الزيارة لأسباب أمنية فى سرادق بجوار المطار وغادر بعدها إلى القاهرة، وعلمت أنه قال: روزاليوسف كانت على حق.
كان الإرهاب فى ذلك الوقت فى أوج جرائمه، ورفع الإرهابيون شعار "قتل رجل شرطة كل يوم" وعاش الصعيد أياماً صعبة تحت الحصار وحظر التجوال، وتحملت الشرطة المسئولية كاملة، وتمكنت بالتضحيات العظيمة لرجالها أن تجتث جذوره، وعاشت البلاد منذ بداية التسعينيات هدوءًا تاماً، حتى عاد الإرهاب ضارياً بعد يناير 2011.
مهنة الصحافة لها قواعد وضوابط وأخلاقيات يتوارثها الصحفيون جيلاً بعد جيل، وإذا فقدت الأساتذة والأسطوات تتوه فى الزحام.