كامل الشناوى يكتب عن «أينشتاين العرب» كما لم يعرفه أحد !

د.على مصطفى مشرفة والعالم «أينشتاين» صاحب نظرية النسبية
د.على مصطفى مشرفة والعالم «أينشتاين» صاحب نظرية النسبية

عندما رحل العالم المصرى الجليل على مصطفى مشرفة «أينشتاين العرب» رثاه العالم ألبرت أينشتاين صاحب نظرية النسبية قائلا: «أنا لا أصدق أن مشرفة قد مات، يا لها من خسارة فادحة، فنحن بحاجة إلى مواهبه، لقد كنت أتابع أبحاثه فى الطاقة الذرية، وهو بالتأكيد واحد من أعظم العلماء فى مجال الفيزياء»، وعندما نحتفى بالذكرى 124 لميلاد الدكتور على مصطفى مشرفة نعيد نشر المقال الذى كتبه عنه كاتبنا وشاعرنا الكبير كامل الشناوى بما لا نعرفه عنه فى كتابه «زعماء وفنانون وأدباء»، غير أنه العالم المصرى الوحيد الذى التقى بأينشتاين وتبادل الرسائل معه «أينشتاين»، وهو من نبَّهَ إلى وجود معدن اليورانيوم فى مصر، لنرى ماذا كتب الشناوى بما لا نعرفه عنه كعالم فى الموسيقى.

يقول كامل الشناوى: «لم يكن من اليسير على مجتمعنا المفتون بالسذاجة فى الأدب، والمعرفة، والفن، والسياسة أن يتجاوب مع عالمٍ يحلِّق بدراساته وبحوثه فى أعلى الآفاق وعلى مستوى عالميٍّ، فقد حاضَرَ فى منظمات علمية دولية، واحتلَّ اسمه مكانًا كبيرًا بين علماء الرياضة العالميين، وصارت له نظرية خاصة فى النسبية، وهذه العبقرية التى تمارس العلم بأستاذية كبيرة وسلوك شخصى مترفِّع، كانت إذا اختلطَتْ بالناس بَدَتْ كشهابٍ هبط إلى الأرض ولم يحترق، هكذا كان شعورى عندما تقابلت معه لأول مرة فى دار مكرم عبيد، كان قصير القامة، ممتلئ الجسم فى غير ترهُّل، تتجلَّى أناقته فى حركاته، وإشاراته، وكلماته، وبذلته، وربطة عنقه، يُحسِن الحديث، ويُحسِن الإصغاء، يُخَيَّل لك أنه يهمس إذا تكلم، ويهمس إذا أصغى، فلا يرتفع صوته إلا بقدر ما يصل إلى جاره، ولا يميل بجسمه لكى يسمع، ولكن يرهف أذنَيْه برشاقةٍ ووقار، وكنتُ أظن أن هذا العالِمَ الغارق إلى أذنَيْه فى المراجع الجافة، لا يتذوَّق الأدب والفن، ولا يتعرَّض للأوضاع السياسية، وأدهشنى أنه وجَّهَ إلى مكرم عبيد ملاحظاتٍ هاجَمَ بها الأحزابَ كلها، وكان مكرم رئيسًا لحزب الكتلة، بعدما اختلف مع مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد، واضطره هذا الخلاف إلى أن يتعاوَن مع خصومه بالأمس من أحزاب الأقليات، فقد قال لمكرم عبيد: «عمل عظيم أن تثور على فساد الحكم، وأن تمضى فى ثورتك إلى أن تدخل السجن وتضحِّى بمكانتك فى الحزب الذى ساهمْتَ فى بنائه، وتفضل أصدقاءَكَ الذين شاركوك حياتك الحزبية، ولكن ما هو الهدف من هذا الموقف؟ هل الهدف أن تمنع حزبًا من الفساد لتفسح المجال لأحزابٍ أخرى؟ وهل تعتقد أن هذه الأحزاب تستطيع أن تقاوم رغبةَ مَن يقف وراءها، ليهدم بها حزب الأكثرية ويتولى هو مقاليد الأمور فيطغى كما يشاء وينهب كما يشاء!»، وقال له مكرم: «دعنا من الكلام فى السياسة الآن، فقد اجتمعتُ بكم الليلةَ للاحتفال بعيد ميلادى، وأريد أن أنسى السياسة ليلة واحدة كل عام».

إقرأ أيضًا

كنوز | كامل الشناوى يكتب.. جثمان أنور وجدى.. بات على الرصيف!

كان من بين المدعوين محامٍ شابٌّ، أراد أن يُحرج العالِمَ الجليل فسأله: «مَن الإنسان الذى يقف وراء الأحزاب ليجعل منها مخلب قطٍّ، ينهش حزب الأكثرية ثم يطغى هو وينهب كما يشاء؟» أجابه العالم الجليل بكل هدوء: «إنك تعرفه، لستُ أخاف من ذِكْر اسمه، ولكنى لا أريد أن أحرج الرجلَ الذى يحتفل بعيد ميلاده»، وفهم الجميع أنه يعنى «الملك»، وارتسم الذهول على وجوه الموجودين جميعًا، فقد كان معروفًا أن القصر وقف إلى جانب العالِم الكبير أكثر من مرة، وسانَدَه ضد حكومة الوفد وحكومات الأحزاب الأخرى، وقد نال رتبة الباشوية، ولم ينكر العالِمُ هذه الحقائقَ ولكنه حلَّلها بطريقته العلمية، رأى أن القصر لم يناصره إلا ليَكيد للوزارات القائمة فى الحكم، وبذلك يبدو أمام الشعب فى صورة نصير العلم والعلماء!..

كامل الشناوي

ويستطرد كامل الشناوى قائلا: «لم تمضِ هذه الليلة من عام ١٩٤٨ حتى أصبح أستاذنا العالِم المحلِّق فى آفاقٍ لا نعرفها، قريبًا من نفسى، فقد انطوى حديث السياسة وأخذنا نستمع للفنان محمد عبد الوهاب، وهو يؤدِّى إحدى أغنياته بالعود، واتجهت بكل انتباهى واهتمامى إلى هذا الوقور، لأعرف هل يستمتع بالغناء مثلنا، كان رأسه يشبه بكرة من زئبقٍ يختلج ويتوهج بحرارة وإشعاع، كان كل ما فيه لامعًا، خاتمه، دبوس ربطة العنق، زِرَّا كمَّيِ القميص، نظارته، ذكاؤه الحاد، وكان يتابع النغمات بنقرات أصابعه على المقعد، وبضرباتٍ خفيفة بأطراف قدميه فوق السجادة، وحسبت أن حركاته لا علاقةَ لها باللحن، ولما انتهى عبد الوهاب من الغناء، دنوتُ من العالِم المهيب وسألته عن رأيه فى الأغنية التى سمعها، فقال «إن الأغانى المصرية تمشى فى طريق التطوُّر»، وعدتُ أسأله «هل تهوى الموسيقى؟»، فقال: أهواها وأدرسها، قلت «هل عندنا ألحان عالمية ؟»، قال «عندنا صوت عالمى، هو صوت أم كلثوم»، قلت «ولكنك عالم متخصِّص فى أشياءَ لا تمتُّ إلى الموسيقى بصلة»، قال «فى أعماق كل عالِم فنان، هذا إذا صحَّ أنى عالِم»، وأخذتُ أتعقَّب تاريخَ حياة هذه العبقرية الفذة، ووجدتُنى أعيش فى جوٍّ ساحر يثير العجب والدهشة، فالدكتور على مشرفة فرض الحديث عنه فى تلك الأيام من عام ١٩٤٨، فقد أقام فى مصر أول معرض علمى للطاقة الذرية، ولقى هذا المعرض اهتمامًا من الهيئات العلمية الدولية، وكان يشغل منصب وكيل جامعة القاهرة، ولم يكن للجامعة مدير، فكان هو المديربالنيابة، ثم دبَّ الخلاف بينه وبين الوزارة، فأقصَتْه عن وكالة الجامعة، وظلَّ محتفظًا بمنصبه عميدًا لكلية العلوم، ولم يكن الدكتور مشرفة يعبأ بأبهة المنصب، ولكنه شعر بمرارةٍ فى إقصائه عن إدارة الجامعة، وعانى فى صمتٍ وكبرياء!

ويقول الشناوى: «لعالمنا الجليل خمسة وعشرون بحثًا فى نظرية «الكم»، ونظرية النسبية لأينشتاين، والطاقة الذرية، وألَّفَ وحده ومع آخرين ثلاثة عشر كتابًا علميًّا وهو أول عالِم مصرى دعته أمريكا رسميًّا إلى إلقاء محاضرات عن الذرة فى جامعة برنستون، وأول عالِم مصرى يشترك فى الموسوعة العالمية للشخصيات العلمية طبعة نيويورك وطبعة لندن، وكان عالمًا فى الموسيقى، فهو أول مَن قام بدراسة مقارنة بين السلم الموسيقى الغربى والسلم الموسيقى الشرقى، وترأس أول جمعية مصرية لهواة الموسيقى والأغانى العالمية، وعضوية المجلس الأعلى لشئون الموسيقى، واللجنة المصرية لتخليد ذكرى شوبان، وفى ١٦ يناير من عام ١٩٥٠ وقع الحادث الجلل، احترق الشهاب المشحون علمًا وذكاءً وعبقرية؛ مات على مصطفى مشرفة وفى رأسه كثيرٌ من العلم، وفى نفسه كثيرٌ من الألم، فقد حزَّتْ فى نفسه محاولةُ إذلالِه بإقصائه عن منصب وكيل الجامعة، ومنعه كبرياؤه من أن يشكو، وكما عاش حياته العلمية فى هدوء، لفَظَ آخِرَ أنفاس حياته فى هدوء!
كامل الشناوى
من كتاب «زعماء وفنانون وأدباء»