يوميات الأخبار

سر الحملة على الصحافة القومية!

محمد الشماع
محمد الشماع

فى مصر كما فى كل دول العالم لا توجد حرية مطلقة والصحفى مثله مثل أى مواطن تنتهى حريته عندما تبدأ حرية الآخرين

اليوم.. وأنا أستعيد شريطاً طويلاً لمشوار حياتى فى شارع الصحافة الذى بدأ منذ أكثر من خمسة وأربعين عاماً..

أخرج بيقين أكيد أن هناك من يكتسبون قيمتهم من المقاعد التى يجلسون عليها..

فإذا فارقوها طواهم النسيان مهما طالت مدة بقائهم، وهناك من تكتسب بهم المقاعد قيمة ومكانة، فإذا غادروها ظلت قيمتهم باقية بل ازدادت رسوخا وتوهجا بالتحلل من قيود المنصب!

من هؤلاء أساتذة عظام تعلمت منهم وشرفت بالتتلمذ على أيديهم والنهل من خبراتهم وتجاربهم العريضة.. يأتى فى مقدمتهم عميد مدرسة أخبار اليوم الصحفية مصطفى أمين والأستاذ جلال بك الحمامصى والعملاق موسى صبرى النزيه الشريف الذى مازالت سيرته العطرة تعبق أجواء دار أخبار اليوم، والفارس النبيل سعيد سنبل جنتلمان الصحافة الحقيقى وعاشق أخبار اليوم أحمد زين وأحرف أبناء دار أخبار اليوم العظيم وجيه أبوذكرى والمثقف الجرىء اسماعيل يونس والعبقرى المبدع أحمد رجب وقائد أخطر الحملات الصحفية الناجحة طوال أكثر من خمسين عاما أستاذى ابراهيم سعدة والمهنى الأصيل أستاذى جلال دويدار رحمة الله عليهم جميعا بما قدموا لهذا الوطن الغالى ولأبنائه الشعب الصامد ولمهنة الصحافة المقدسة.

ما دفعنى إلى استرجاع هذا المشوار الطويل فى شارع الصحافة بحثا عن سر الحملة الشعواء التى تتعرض لها المؤسسات الصحفية القومية على صفحات بعض الصحف والفضائيات وتلوكها بعض الألسنة ووسائل التواصل بصفة خاصة التى لم يسلم منها تليفزيون الدولة، ولا صحافتها!

الحقيقة أن هناك موقفين وراء تلك الحملة الأول ينطلق من منطلقات بريئة الهوى تستهدف النهوض بهذه المؤسسات المملوكة للدولة والتى تعرضت لعملية استنزاف اقتصادى وبشرى رهيب فى سنوات الركود الصحفى الماضية.

أما الموقف الثانى فهو غير منزه عن الهوى ويستهدف تدمير سمعة هذه المؤسسات المملوكة للشعب والتى تعد نافذته الحقيقية على مجريات الأحداث وجسر الحاكم إليه.

تلك قضية فى غاية الأهمية تمس الأمن القومى المصرى وينبغى أن تكون موضع حوار وطنى بين المفكرين والكتاب وكبار الصحفيين والخبراء أتمنى أن تجد لها مكانا فى هذا الحوار الوطنى الذى جاء فى موعده تماماً.

لنتفق على أنه فى مصر كما فى كل دول العالم لاتوجد حرية مطلقة، والصحفى مثله مثل أى مواطن تنتهى حريته عندما تبدأ حريات الآخرين..

ورغم عدم الرضا عن الصحافة، إلا أن القيادة السياسية تتمسك بحرية الصحافة وحماية حقها فى النقد دون تفرقة بين الصحف القومية والحزبية والمستقلة.

راهن البعض على أن التوسع فى الحريات بعد ثورتى يناير و٣٠ يونيو كان مرهونا بتلك الفترة فقط، لكن زاد هذا الحق رسوخا بعد تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى رئاسة الجمهورية.

لاشك أن الرئيس السيسى يطلع على الصحف ويستمع ويشاهد برامج تليفزيونية سواء التليفزيون المصرى أو الفضائيات التى تبث من القاهرة تتناول السياسات الحكومية بالنقد الشديد، ويسعد بالنقد الهادئ ولم يتدخل ولو لمرة واحدة لمنع كاتب أو ضيف أيا كان رأيه، لأن إيمانه بحرية الصحافة وحرية الإعلام لايتزعزع، وأنه على يقين أن إعلامنا المصرى قادر على التصدى والرد على كل الحملات الإعلامية الموجهة التى يعز عليها هذا الاستقرار الأمنى والسياسى والاستثمارى الذى تتمتع به مصر فى ظل عالم يموج بالمشاكل والمتغيرات والقلائل.

اغفال النشر 

الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى انحاز فى البداية إلى حرية الصحافة لايمكن أن يعصف بالصحافة فى ظل الاستقرار الذى وصلت إليه مصر، ولابد أن نعترف بأن التجاوزات لاتقتصر على الإساءة الشخصية لكبار المسئولين ولكنها كثير  ما تمتد وتصبح خطرا على الوحدة الوطنية.

الانتماء للأرض والغيرة على أمن الوطن يجب أن تكون المعيار الأول الذى يلتزم به جميع الصحفيين والاعلاميين والتحقق من المعلومة وموضوعية النقد هما الأساس لصحافة حرة تسهم فى مسيرة التنمية مثلما تسهم فى بناء حرية الصحافة واستقرارها..

وأمام هذا الواجب هناك واجب السلطات والمسئولين فى تزويد الصحافة بالمعلومات الصحيحة ليسود مناخ من الشفافية يمنع الشائعات من الانتشار ويسهم فى ترسيخ مسيرتنا الديمقراطية.. وفى هذا المجال يكون من الأمانة أن نقول إن مواجهة انتشار الشائعات ليست مسئولية الصحف وحدها وإنما هناك بعض الجهات التى كان يجب أن تبادر بالرد وألا تترك مجالاً للتكهنات والتنجيم.. إضافة إلى ذلك ما يمكن أن نسميه ظاهرة اغفال ما تنشره الصحف من شكاوى واراء واقتراحات القراء والتى تفرد لها الصحف صفحات دون رد من الجهات الحكومية والرسمية، بينما تقوم الدنيا ولا تقعد بسبب نشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعى قد يستغرق عدة ثوان -رغم تفاهة معظمها- لتنطلق تصريحات التكذيب والنفى من الوزارات وكبار المسئولين، وهذا موقف يضعف الصحف ويساعد على انتشار الشائعات على وسائل التواصل الاجتماعي!

الصحافة والحكومة

على أية حال إذا كانت هذه مشكلات الحكومة مع الصحافة، فإن للصحافة مشكلاتها مع الحكومة وتساؤلاتهم حول مستقبل الصحافة القومية وما تفكر فيه الدولة.. وهل ستحافظ الدولة على كل المؤسسات الصحفية بعددها الحالى، أم ستعمل على التخلص من المؤسسات الأضعف التى تحقق خسائر كبيرة بدون أن يكون لها حضور محسوس فى السوق الصحفية، أو دمج مجموعة من هذه المؤسسات؟.

وهل مازالت الحكومة حريصة على الصحافة القومية ومد يد المساعدة لها فى الوقت الذى يمدون فيه أيديهم إلى الصحافة الخاصة ويقدمون لها الدعم سواء فى المعلومات أو المساندة الإعلانية!

هذه الأسئلة لدى الصحافة القومية لها ما يبررها وترتبط بشكل كامل برؤية الحكومة لأهمية الصحافة القومية ودورها وحدود العلاقة معها.
الصحافة القومية تبصر الحكومة بالمخاطر ولاتهاجمها، وهناك غياب للمعلومات عن الصحافة القومية فى القضايا المهمة، وهذا النقص فى المعلومات يجعلها تفاجأ ببعض القضايا بعد تفجيرها.

الصحافة القومية أسهمت فى الدفاع عن السياسات ولم تقف ضد رؤية الحكومة فى الخطوط العريضة، لكن ينبغى ألا تضيق الحكومة بالنقد فى تفاصيل التنفيذ والتقصير الذى يحدث هنا أو يحدث هناك، لأن حرمان الصحافة من حق النقد أو معاقبتها على ممارسة هذا الحق هو أشبه بتقييد ذراعى شخص وإلقائه فى الماء ومطالبته بالسباحة!.

هناك متغيرات اجتماعية كثيرة ومنافسة فى سوق صحفية مفتوحة، وهذه المتغيرات تتطلب من الصحافة أن تكون على مستواها وقادرة على المنافسة، لأن الصحافة القومية القادرة على المنافسة تقدم الضمانة على التوازن الاجتماعى والسياسى بعكس الصحافة الخاصة التى يطلق عليها اسم «المستقلة» وكل صحيفة تعبر بالمنطق وبالضرورة عن رؤية أصحابها أو تكتل المصالح الذى يقف وراءها، وعلى الحكومة أن تدرك هذه الحقيقة وتتعامل مع الصحافة القومية بحرص أكثر من الذى أظهرته، ولن تطمئن الصحافة القومية إلا إذا رأت من الحكومة سلوكاً جديداً يؤكد أن ما أبداه بعض مسئوليها ضد الصحافة القومية هو آراء فردية وشخصية ولاتعبر عن رؤية الحكومة أو الدولة للصحافة القومية.

فى اعتقادى أن الخطوة الثانية باتجاه مستقبل الصحافة القومية يجب أن تتخذها المؤسسات نفسها، وحتى تكون المطالبة بإسقاط الديون أو جدولتها منطقية، لابد أن ترشد المؤسسات أوجه الانفاق والبنود غير الضرورية، وان يقر مبدأ الثواب والعقاب ومحاسبة المخطئين، كما يجب أن تلتزم الصحافة بأهدافها الإعلامية والثقافية وتحد من ظاهرة الدخول فى أنشطة خارجة عن هذا الدور وبعيدة عنه مثل العديد من المشروعات التجارية، التى بدأتها المؤسسات قبل ثورة يناير وحققت خسائر للدور الصحفية، وكان مكسبها الوحيد لمصلحة قلة من الأشخاص الذين استفادوا من البدلات والمكافآت التى يصرفونها بسبب تعدد هذه الأنشطة والشركات، وكذا عمليات التصرف فى بعض الأصول سواء بالبيع أو بالتوسع فى المنشآت  وبعد كل هذا يأتى ترشيد الإصدارات الصحفية المتنافسة فى الدار الواحدة والتى تقلل من حصيلة كل إصدار فى الإعلانات وتزيد من أعباء الطباعة.

الصحافة داعمة للديمقراطية

أتمنى أن تكون الصحافة داعمة للديمقراطية، وليست خطرا عليها لأن من الممكن أن تهدد سقف الحريات إذا ما فقدت الحكومة أعصابها فى نفس الوقت تحولت إلى خطر على مهنة الصحافة ذاتها. هذه الصحف التى تتكاثر ويتكاثر عدد العاملين فيها تخرج أجيالاً جديدة من الصحفيين لايعرفون شيئا عن أخلاق المهنة ولايعترفون بشىء اسمه الوثيقة أو المستند أو أى طريقة أخرى للتحقق من المعلومة، ويستقون معلوماتهم من وسائل التواصل الاجتماعى والمواقع الإلكترونية التى يحرر أغلبها أناس لايعرفون  شيئا عن المهنة أو ميثاق الشرف الصحفى، كما يستقون معلوماتهم من النكت والنميمة فى المقاهى مع تشكيلة من الألفاظ البذيئة تظهر مذيلة بتوقيعاتهم!.

الإصلاح أصبح ضرورة

الإصلاح أصبح ضرورة الآن حتى تكون الصحافة سندا للتجربة الديمقراطية فى الجمهورية الجديدة، وهذا لن يتم إلا إذا كان لدينا قانون موحد للصحافة يضمن حرية الرأى وتغيير شكل مجالس الإدارة والجمعيات العمومية لتصبح قادرة على إدارة المؤسسات مراقبة أعمالها وهذا يتطلب تشريعات جديدة تجعل كل مقاعد هذه المجالس والجمعيات بالانتداب ليكون مقدمة لشكل جديد من الملكية يحافظ على حقوق ليس الصحفيين وحدهم وإنما عشرات آلاف من العمال والإداريين داخل هذه المؤسسات التى تواجه تحديات حقيقية فى السوق.