«آخرساعة» تجيب عن أسئلة الشيطان (4).. هل الحج اختراع وثني..!

أسئلة الشيطان
أسئلة الشيطان

كتب: حسن حافظ

يقول الأبالسة: الحج عادة وثنية من قبل القبائل العربية، التى كانت تعبد الأصنام والأوثان وتنصبها حول الكعبة وتطوف حولها، ويقدمون القرابين والأضاحى تعبيرا عن الشكر والامتنان للآلهة الوثنية لكى تحميهم من غضب الطبيعة، فى إطار عبادات بدائية اعتنقها الإسلام الذى لم يكن أكثر من ديانة وضعية من اختراع شخص اسمه محمد بن عبدالله هو مصلح اجتماعى، وعليه فإن الحج إلى مكة عادة وثنية عفّى عليها الزمن، ولم تعد مواكبة للعصر وتطور العقل الجمعى للعالم، ويجب التوقف عنها لأنها عبادة محض وثنية وكل طقوسها تأتى من خلفية وثنية، وهى طقوس غير مفهومة ولا لزوم لها. كل هذا الحديث تسمعه يتردد على أسماعك من بعض المستشرقين والباحثين العرب ومن لف لفهم، والذين لا يرون فى الحج إلا طقوسا وثنية، ولا يحاولون فهم طبيعة هذه الفريضة الإسلامية، فما علاقة هذه الفريضة الإسلامية بالوثنية؟ وكيف تخلصت من الطقوس التى شوهت أصل الفريضة حتى استطاع الإسلام أن يستعيدها مرة أخرى كعبادة تؤكد على وحدانية الله.

 

مثل هذه الاتهامات تراها تعاد وتتكرر بين الحين والآخر، لا يقدم صاحبها جديدا عما قيل قبل قرون فى أوروبا خلال فترة الاستشراق الدينى الذى اتخذ من الاستشراق ستارا لمهاجمة الإسلام ومحاولة هدمه بالتعرض لأركانه بالهدم، ورغم أن هذه المحاولات فشلت فإنها تركت بعض الذيول فترى بعض المحسوبين على لغة الضاد يتلقفون آراء لم يعد أبناء الاستشراق يعتنقونها بمثل هذه السذاجة، ويكررونها على الأسماع باعتبار أنهم جاءوا بما لم يأت به الأولون وأنهم اكتشفوا عيب الإسلام الذى سيقضون عليه به، وهم يتخبطون ويقولون ما لا يعلمون، فما قيل قد قيل منذ قرون ولم ينته الإسلام بسبب هجوم هذا الفصيل أو ذاك، ولا تداعى ركنه بسبب دعاية أو حديث من هذه الأحاديث، لكنها نفوس مريضة لا ترى إلا أن تبيع دينها من أجل دنياها.

 

فى البداية يجب أن نفرق بين فريقين، فريق يؤمن بالإسلام كديانة سماوية وأن النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) نبى مرسل، وفريق لا يرى ذلك، فالثانى لن يقنعه إلا رؤية الله يوم الحساب، كما قالت اليهود لموسى عليه السلام ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: 55]، فمهما أتيت له بالأدلة العقلية لن يؤمن لك ولا يقر بصحة موقفك لأنه لا يؤمن إلا بالماديات ولا يعترف إلا بما يمسكه بيديه، وسيجادل معك بلا أمل فى الوصول إلى شاطئ لأنه لا يفهم ولا يريد أن يفهم أن الإنسان ليس مادة فقط بل هو مكون من روح ومادة، وكما أن المادة ضرورية فإن الروحانيات لا غنى عنها فى حياة الإنسان، وهذا ما توصل له كبار علماء الاجتماع فى أعرق المعاهد العلمية فى أوروبا وأمريكا.


أما الشخص المؤمن بأن الإسلام رسالة سماوية، فهو يؤمن بأن الحج فريضة فرضها الله سبحانه وتعالى على المسلمين، فى قوله تعالى:- ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْى مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ  فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‎< الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ <‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ‎<‏ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 196-199]، ويقول تعالى: ﴿وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ < لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج: 27-28].

 

إذن آيات الحج جاءت فى القرآن بنص صريح، وهى عبادة روحية فى المقام الأول غرضها الأساسى التجرد من كل ما يتعلق بالمادية والتوجه إلى رمزية الكعبة للتأكيد على توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، عبر تلبية النداء بقولهم "لبيك اللهم لبيك"، ثم يرتدى المحرم ملابس الإحرام، وهى ملابس رمزية تدل على التخلى عن كل مباهج الدنيا والتقشف ليأتى المرء أمام ربه وهو لا يملك إلا الدعاء طالبا الرحمة والمغفرة، ويأتى الطواف كمحاكاة لطواف الملائكة بالعرش، وفى الصفا والمروة يأتى السعى ليقرن العمل البدنى بالإيمان الروحى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وكما سعت السيدة هاجر فاستجيب لها وحصلت المكافأة على قدر إيمانها القلبى بأن الله منقذها، ثم يأتى الوقوف على عرفات، وفيه يتم الإقرار لله بالربوبية.

 

 أما الرمى بالجمرات ففيه رمزية التخلص من كل شياطين النفس البشرية، وأنها تتخلى عن وسواسها من أجل استحقاق رحمة الرحمن، كما أن منع القتل أو الرفث أو الفسوق فى الحج فهو دليل على أن الإنسان الربانى يكون مسالما ومشغولا بربه فكيف يسقط فى الخطأ وينشغل بما يعكر صفو علاقته بربه؟ فالحج فى جوهره دعوة خالصة لوحدانية الله تعالى ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالوثنية، فمن أين جاء الخلط فى هذه المسألة؟

 

نعود إلى القرآن الكريم الذى ينص صراحة على أن عبادة الحج عبادة توحيدية منذ أيام النبى إبراهيم عليه السلام، لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِى لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‎<‏ وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ <‏ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ <‏ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 26-29]، وقوله سبحانه: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‎< رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 127-128].

 

فالقرآن الكريم يقول بشكل صريح لا لبس فيه إن الحج شعيرة إسلامية منذ البداية وكانت ولا تزال رمزا على التوحيد بداية من سيدنا إبراهيم عليه السلام، لكن لما خلف من بعدهم خلف أضاع الصلاة واتبع عبادة الأصنام، فكانت النتيجة أن انتشرت عبادة الأصنام فى الجزيرة العربية كلها، وهو الأمر الذى طال فى النهاية طقوس الحج فتحولت من عبادة توحيدية إلى عبادة شركية تقوم على تعددية الأصنام التى نصبت حول الكعبة، ومن هنا حصل التشويه لعبادة الحج وطقوسها، حتى عاد الإسلام وأعاد الأمر إلى نصابه فطهّر الكعبة من الأصنام، وأعادها رمزا لعبادة الواحد القهار، وتوقير الكعبة فى هذا الإطار باعتبارها نقطة المركز لعبادة الحج، وليس لها فى العبادة من شيء، فالإنسان المسلم يوقرها ويجلها لكن لا يعبدها، وهو ما تجلى بوضوح فى قول عمر بن الخطاب وهو يقبل الحجر الأسود: "إنى أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أنى رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبلك ما قبلتك"، ففى مقولة عمر تظهر عقيدة أى مسلم، فهذه الأماكن المقدسة محل تقدير واحترام ولكنها لا تعبد فى حد ذاتها بل هى مجرد وسيلة لأداء فريضة الحج المقصود بها الإقرار بوحدانية الله تعالى.

 

هذه السردية لم نخترعها بل هى مما جاءت به كتب العلماء المسلمين منذ قرون عديدة، فلا أحد ينكر أن الكعبة تحولت لمركز عبادة وثنية، وهو ما اعترف به الإسلام وجاء النبى (صلى الله عليه وسلم) لمحاربته، وإعادة الأمور إلى نصابها، فلا يوجد عالم ينكر هذه المعلومات ولم يعمل أحد على طمسها، بل هناك إجماع على أن مكة كانت مركزا لعبادة وثنية، وهناك كتاب "الأصنام" لهشام الكلبى الذى يعدد أصنام العرب قبل الإسلام، فالقول بأن الحج عبادة وثنية مقولة معترف بها من قبل الإسلام نفسه، ولم ينكرها أحد، لكن الخلاف الحقيقى فى أن الإسلام يقر بأن الأصل الحقيقى لهذه العبادة هو الأصل التوحيدى بداية من نبى الله إبراهيم، وأن الانحراف الوثنى شوه هذه الديانة وحرفها عن مسارها الطبيعى، والذى استعاده مجددا الإسلام بإقرار مناسك الحج فى إطار توحيدى، وهو أمر طبيعى يقر به كل علماء المسلمين، لكن من ينكر أن الإسلام دين سماوى لن يفهم هذا الكلام ولن يقتنع وسيظل فى غيه يجادل بالتى هى أسوأ، ولن ينفعه كثير الكلام ولا قليله.