عزالدين ميهوبي يكتب: شاهد على انتحار الأبجديّة

عزالدين ميهوبي
عزالدين ميهوبي


بقلم: عزالدين ميهوبي


.. كان يمكن أنْ يكتبَ كونفوشيوش مقدّمة ابن خلدون، ويكتبَ ابن خلدون الحمار الذهبي لأبوليوس، ويكتبَ شيكسبير مقامات بديع الزمان الهمذاني، ويكتبَ دانتي رسالة الغفران للمعرّي، ويكتبَ سيرفنتيس رحلة ابن بطوطة، ويكتبَ أفلاطون تهافتُ الفلاسفة للغزالي، فيردّ عليه أرسطو بتهافُت التهّافت لابن رشد، ويكتبَ طاغور رُباعيات الخيّام، ويتألّق المتنبّي في إلياذة هوميروس، والبحتري في إنياذة فرجيل، ويؤلّف المقّري كتاب فنّ الحرب للصيني سون تسو، ويكتب المقريزي رأس المال لماركس، ويقضي سالُوستْ أعوامًا في تأليف قصّة الحضارة لويل ديورانتْ، ويُبهر السيّاب العالم برائعة الأرض اليباب لتوماس إليوت، ويعيد كيبلينغ كتابة أغاني مهيار الدمشقي لأدونيس، ويستعير جيمس جويس أشعار حافظ الشيرازي، ويقتبس ريمبو من الماغوط، ويروي عزيز نيسين يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم، ويتألّق ألبير كامو في نجمة كاتب ياسين، ويعيدُ بورخيس صياغة روايات هيمنغواي وهكذا..
كان يمكنُ أن يحدث هذا، فتأخذ الأسماء مواقع أخرى لغويّة وجغرافيّة مختلفة، لو أنّ للعالم لسانًا واحدًا ولغةً واحدة، لكنّ سُنّة التنوّع والتعدّد هيَ من جعلت المتنبّي يتألّق بالعربيّة، وتولستوي يبدعُ بالرّوسيّة، وفيكتور هوغو يرتقي بالفرنسيّة، وشكسبير يخلّد الإنجليزيّة، وماكيافيللي يمنحُ الإيطاليّة تاريخًا، وغوته يصدحُ باللسان الألماني، ويبعثُ الفردوسي حكمته بالفارسيّة، ويرقصُ مونوغاتاري على إيقاع اليابانيّة، ويؤلّف كونفوشيوس تعاليمه بالصينيّة، ويرحلُ رسول حمزاتوف بلغته الآفاريّة (الداغستانية) إلى رحاب العالم، وينتقلُ أورهان باموكْ بالتركيّة إلى العالميّة، ويعيد باولو كويلهو للبرتغاليّة بريقَها.. ولكلّ لسان كُتّابُه ومبدعوه. فمثلما للبشر ألوانٌ مختلفة، كذلك تختلفُ ألسنتُهم وتتنوّع مفرداتُ لغتهم، وتلك حكمة الله في خلقه. ومنْ هنا يبدأ السؤال صغيرًا فيكبرُ مثل كرة ثلجٍ ليصبحَ بحجم العالم الذي يعيشُ على وقعِ سؤال لا ينتهي وجوابٍ تُرهِقُهُ أسئلة جديدة.
هذا الكتابُ، هو في الأصل جُملةٌ من الهواجس التي استقرّت في مكمن الذّاكرة منذ منتصف الثمانينيات، حيثُ كنتُ أدوّنُ كلّ معلومة أعثر عليها، ذات صلة باللغة، وأبقيتُ عليها في أرشيفِ دفاتري القديمة، وفي 2006 عدتُ لتلكَ الأوراق، وشرعتُ في إعادة قراءتها، فوجدتُ أنّ ثلاثة أرباعها ميّتٌ من حيثُ قيمتُه المعرفيّة، لأنّ العالم ما فتئ يتغيّر، وانتشرتْ أفكار جديدة، فوصلتُ إلى مُحصّلةٍ هي أنّ علينَا قراءةَ الأشياء في اتجاهاتٍ متعاكسة، ينتفي فيها ما كان لا ما سيكُون.. أيْ كيف تكُون علاقة الإنسان باللغة في المستقبل. ومن هُنا طرَحتُ السؤال الذي تحوّل إلى هاجس مركزيّ بالنسبة لي ولكثيرٍ ممّن يشاطرونني الفكرة «في 2100.. هل يصيرُ العالم بلا لغة»، ورُحتُ أنبشُ في كلّ ما يتّصل بحركةِ اللغات في العالم، تاريخها وتطوّرها، وعلاقة ذلك بالسياسة والأمن اللغوي، واستوقفتني الحروب والصراعات اللغوية كثيرًا. وانتهيتُ إلى أنْ أُوثّق كلّ ذلك في كتابٍ، شكّل جزءٌ منهُ رسالة أكاديميّة، وهو ما يتّصل بالأمن اللغوي، غير أنّ أهميّة الموضوع جعلتني أكسرُ الأسوارَ الأكاديميّة، ليكون الكتابُ ثقافيًا بالأساس. 
هذا الكتابٌ لا يحمل أجوبةً مستهلكة قدرَ حمله أسئلةً مُستفِزّة، وعلى قدر السؤال يكون عبءُ البحثِ ثقيلاً في مسألة اللغة التي تبقى أعظمَ ما في الكون لأنّ بها نفكّر ونتواصل ونبدع، وبها نعبّرُ عن غضبنا بكلماتٍ نابية أو جارحة، وعن فرحنا بكلمات فيها إشراقٌ وسعادة.. ونعلنُ من خلالها عن هويّتنا وانتمائِنا الحضاري.. ويمكنُها أيضًا، مثل الدّين والعرق، أن تكون وقودَ حربٍ طويلة ومدمّرة، فالحروبُ التي تتِمُّ باسم اللغةِ أكثرُ تدميرًا منها باسم الدّين أو النزاع السياسي كما يقول مفكّرو التّاريخ والحضارة.

البدءُ يكون بالأبجديّة، هذا الشّكل الذي أخرجَ الإنسان من حيرة السؤال إلى رحابة التفكير في واقعهِ ومصيره. ومن الأبجديّة تتفرّع أسئلة اللغة وحواشيها، وكلّما تغيّر العالم، استمرّ سؤالُ اللغة يحفرُ عميقًا في فكرِ الانسان.
هذا الانسان اختار، قبل حوالي أربعة آلاف سنة، ألواحَ الطين والمعادنِ والشّمع ليحفر إشاراتٍ ويبتكرَ رموزًا يحفظُ من خلالها ميراثه الفكري والثقافي ولو على بدائيّته.. فقرأ النّاس شريعةَ حمورابي باللغة المسماريّة، ونشأت بها مكتبتا نيْنوَى العراق وإِبْلاَ الشّام، ليكتشفَ العالم لاحقًا حفرياتٍ تدلّ على انتقال هذا المسمار التّاريخي إلى أوروبّا ومناطق أخرى.. وظهرت أبجديات مختلفة الأشكال والرموز من بينها أبجديات مصر الهيروغليفية وأوغاريت وقدمُوس وتيفيناغ والإنكا.. إلى أنِ استفاق العالمُ بعد هذه الرّحلة الطويلة والشاقة مع اللوح الطيني في بناء الحضارة وتطوير أدوات التعبير بها وعنها إلى اللّوح الإلكتروني بعد ثورة رقميّة مُذهلة، جعلت ابن مُقلة خطاط العربيّة الأكبر ينامُ قلقًا في متحف التّاريخ، فقد استعاض النّاس عن قلمهِ ودواته بجهاز «الأيباد» الذي يعطيكَ من البدائل في الخطوطِ والرّسوم والمعلومات الجاهزة ما لا توفّرهُ خزائنُ الأرضِ مجتمعةً..

والسؤال المُلِحّ، بعد أن بلغت الأبجدية حالة موتٍ يكادُ يكون محتومًا، ماذا سيبقى من جان فرانسوا شامبُليون الذي فكّكَ رمزَ الهيروغليفيّة وغيرَه من الأثريين الذين تصدّوا لتاريخ الأبجدية في العالم كما هوَ الشأن بالنّسبةِ لأبي بكر بن وحشيّة الذي تُشير مصادرُ عديدة إلى أنّه سبقَ شومبُوليون إلى تفكيكِ الرّمز الهيرُوغليفي بسنوات. 
. لم يعد لتلك الأبحاثِ الخارقة موقعٌ في محركات البحث الإلكتروني.. إذِ انتهى عصرُ البحثِ في أسرارِ اللغاتِ والأبجديات، لأنّ التقانةَ منحتِ الإنسان كلّ ما يمكّنه من أن يختار في اللحظة التي يشاءَ اللغة واللهجة والصّورة التي يريدُ، مع إمكانيّة التفاعل معها دون الحاجة إلى أن يكون عارفًا أو خبيرًا بها.
إنّ الانسانَ على مدارِ تعاقب الأمم والحضارات، كان يجدّدُ عقله، بتغيير نمط حياته ووسائل إنتاجه، ويحقّق تراكمًا مختلفا. يقول الكاتبان أونشتاينْ وإبرليشْ في كتابهما «عقل جديد لعالم جديد» عقل جديد لعالم جديد، تأليف روبرت أورنشتاين وبول إبرليش، ترجمة أحمد مستجير، منشورات المجمع الثقافي بأبو ظبي 1994. «يجُب أنْ يفهمَ الجميع الدّور المحتمل للتّطوّر الحضاري في تجاوُز مخزونِ العقل، أنْ يفهموه كما يفهمونَ لغةَ حديثهم». إنّ المعارفَ العلميّة، التي ساعدتْ في تفجير ِالمشاكل المعاصرة قد أنجبتْ أيضاً قدراً لا يُبارى من المعرفة عن الطريقة التي يُدركُ بها الناسُ العالم ويفهمُونه.

إنّ هذا المخزون العقلي يمثّل التحدّي الحقيقي لمدى قدرة الإنسان في أن يوائم بين إنتاج المعرفة، وإنتاج اللغة، فالسّرعةُ التي تولّدتْ عن الثورَة الرقميّة، كشفت أنّ الإنسان كلّما حقّق قدرا عاليًا من التطور والتنميّة، صارَ عاجزًا على التّوصِيف والتأريخ لذلك، لأنه يبتلعُ ذكاءَه وعبقريّته.

‏إنّ هذه الثورة الرقمية التي أسهمتْ بشكلٍ قويّ في تضاعف المعرفة، أيْ أن المعلومة التي تحصل عليها على الثامنة تتضاعف مرتين على التاسعة. وقد أصدر الكاتب الإستشرافي والمعماري والمبتكر الأمريكي «بوكمينستر فولر Buckminster Fuller» كتابًا مهمّا بعنوان "المسارُ الحَرِج Critical " تناول فيه ما يسمّى «منحَى تضاعُف المعْرفة» أي أنّ ما ينتجهُ الإنسان من معرفةٍ يشهدُ زيادة مضطردة وتضاعفًا مستمرًا، فإلى غايةِ العام 1900 كانتِ المعرفة تتضاعفُ كل مائة سنة، إلاّ أنّ وتيرتَها ارتفعتْ بعد الحربِ العالمية الثانية، نتيجة اهتمام الدّول بالتعليم وزيادة نسق التنافس الصّناعي، فوصلتْ مع مطلع الثمانينيات إلى أنها تتضاعف كل رُبع قرن. أمّا في مطلع الألفية الثانيّة فإن التطور أصبحَ مرتبطا بمجالاتٍ معينة، كالعلوم التطبيقيّة والتكنولوجيا، حيث تتضاعفُ فيها المعارف بالأشهر والأيام والسّاعات، بمعنى أنّ سرعة المعرفة، يقابلها ابتكارٌ في اللغة والمصطلحاتِ، وهو ما يتوقّف عليه مستقبل كل لغة. فكلما زادَ التراكم المعرفي تقلص عدد اللغة، وبرزَ احتكار لغاتٍ دونَ أُخرى لوظيفةِ التسمية والمُصطلح.
لقد انتشرتِ المعرفةُ بصورة سريعة جدّا جعلتْ الأبجديّة خارجَ اهتماماتِ الإنسان، لأنّها جاهزة ضمن تطبيقات وبرامج تقنيّة وإلكترونيّة متنوّعة. إنّه عصرُ انتحار الأبجديّة التقليديّة التي تعتمد على مهاراتِ الفردِ في التعامل مع اللغة وتراكيبها، والحرفِ وتجلياته، والمعنَى وأبعادِه، وحلّت محلّها أبجديّة الشّفرة والرمزيّة المتولّدة عن تسارع المعرفة والإنتاج التقني. 
تراجعت حركة اللغةِ أمام سرعة المنتوج المعرفي، فاستعاضَ الإنسان بلغة الترقيم والشفرة (الكود) ليكونَ على تماسٍ مع الزمن، وتلك هي لغةُ المستقبل التي جعلت الخبراء يقولون «انهزمَ المُتفرّد وليام شكسبير أمام العبقريّ بيل غيتسْ».

في هذا الكتاب، محاولة للاقترابِ من هاجسِ اللغة منذ نشأتها إلى المصير الذي ينتظرها فيما بعد 2100 القادمة.
لا يمكن للغة أن تنأى بنفسها عن تحوّلات العالم، بفعل الاختراقات التي تفرضُها رياحُ العولمة شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالاً، وفي الآفاق البعيدة بثورة النّانُو والإنفجار الرّقمي الهائل. فمثلما تضربُ بعنفٍ في عُمق الهُوِيّة الفكريّة والثقافيّة والاجتماعية لأيّ أُمّة، تُعيدُ النظر في مفرداتِ السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والحياة اليوميّة. ومثلما يعرفُ العالمُ حروبًا عنيفة، وأخرى باردةً، ويشهدُ إباداتٍ مُمنهجةٍ لشعوبٍ وقبائل، فإنّ اللغة تعرفُ الوضع نفسه إنْ لم يكن أكثر حدّة وشراسة.
لكلّ هذا حاولتُ أن أعرضَ جزءًا من تحوُّلات اللغة في أكثرِ مناطق العالم غليانًا، وتجلياتها وتأثيراتها في هذا الكتاب..