رمضان في الجزائر.. حقيقة مقولة «قلب اللوز»

قلب اللوز
قلب اللوز

فى البدء كان الإيقاع. أحاول فى كلّ مرة أن أتذكّر اسم صاحب هذه المقولة، لكننى أفشل فى ذلك. يلتبس علىَّ الأمر ولا أجد إجابة أتأكّد من صحتها. مع الوقت، صرتّ أُؤمنُ بأنّنا كائنات موسيقية، أو بالأحرى كائنات إيقاعية، وشهر رمضان هو التغيير الدورى فى إيقاع حياتنا، سواء كنّا مؤمنين بقُدسيته ونفرح بقدومه أو كنّا منزعجين من فرضه أوقاتاً مختلفة للأكل والنوم، تحديداً الأكل الذى صار منذ زمن بعيد يضبط إيقاع البشر وساعاتهم البيولوجية.

فى الجزائر، يتحوّل شهر رَمَضان إلى شخصية بشرية، من لحم ودم، شخصية تُدعى: سِيدنا رْمْضان، براء وميم ساكنين ككلّ الحروف الأولى فى لغتنا. 

يُستقبل السيد رْمْضان بالطريقة ذاتها، منذ عقود، أو ربما منذ قرون حتّى. بالرَّغم من الحروب، بالرَّغم من الأزمات السياسية والاقتصادية، بالرَّغم من الثورات والأوبئة، منذ الكوليرا ووصولا إلى الكورونا، تحتفظ النساء -الواقفات على بوابة الزمن- بالروتين ذاته وبقُدسية تقترب من قدسية العبادة ذاتها.

بدءا من «ميناج رْمْضان» وميناج كلمة فرنسية تعنى تنظيف وترتيب البيت. وبما أن السيّد رْمْضان شخصية استثنائية، بحجم جسدِ شهرٍ من الزمن، يصل نظره إلى زوايا الجدران ومصابيح الثريات وتفاصيل الخياطة فى الستائر ومخابئ الأطفال حين يلعبون الغُميضة تحت الأَسرّة وفوق الخزائن، تنخرط النساء فى عملية تنظيف دقيقة وعميقة، حتّى النساء العاملات يأخذن إجازة قصيرة لتجهيز البيت، والأكثر ترفاً صرن يستعن بشركات مختصة فى تنظيف البيوت، أسعارها باهظة لكنها تفى بالغرض، تحديدا إذا كان نصيبُ البيت من الواجهات الزجاجية كبيراً.

ولسبب لا أفهمه لحد الآن، تشترى السيدات فى كلّ سنة آنية جديدة للمطبخ، مع أنّ آنية السنة الماضية لا تزال موجودة وجديدة، إلا أنّ الأسبوع الذى يسبق شهر رمضان يعرف ازدحاماً غير طبيعى أمام محلات الآنية. حتّى الرجال ينخرطون فى هذا الهذيان الجماعى ويذهبون أحياناً بأنفسهم لشراء لوازم المطبخ وتبذير المزيد من المال، وكأن سيدى رْمْضان، قد يهجر طاولة الطعام إذا وجد الآنية ذاتها التى كُسر فيها فى السنة الماضية.

رْمْضان، ورغم قُدسيته وهيبته، إلا أنه يُكسر فى كل ليلة، حين يتناول الصائمون حبّة التمر الأولى أو شربة اللبن أو الماء.

فى كلّ ليلة «نْكَسّْرو رمضان» مع آذان المغرب، بعد أن كانت له الغلبة فى النهار. نقول هنا: «غْلبنى رْمْضان» إشارة إلى مشقّة الصيام، وإلى صراع خفى بين كائن نحبّه ونخشى مشقّته التى اختبرناها. ثم يتم تهشيم ما تبقى من مقاصده بأصناف لا تنتهى من الأكل، الأصناف ذاتها التى تُطبخ فى كلّ سنة، منذ سنوات كثيرة أيضاً، إضافة إلى وصفات جديدة تجربها النساء الأصغر سنا واللواتى تعلمن الطبخ من قنوات اليوتيوب.

يصبح التجديد وكسر روتين الأكل هاجساً فى رمضان، حتّى الوصفات القديمة والتقليدية لم تسلم من إضافات صارت مع الوقت تشوِّه نكهات طفولتنا. ولسبب غامض أيضاً، صارت النساء يضفن الجُبن إلى كلّ الوصفات: إلى الحساء بكل أنواعه، إلى البوراك، إلى «الطواجين»، حتى أحياناً إلى «خبز الدار». صار الجُبن، مع الوقت، مذاق الأيام الجديدة.

تقول والدتى، إنه مباشرة بعد وقف إطلاق النار فى شهر مارس 1962، بين الثوار الجزائريين وقوات الاحتلال الفرنسى، فُتحت المساجد للنساء لأداء صلاة التراويح، وتؤكِّد بأن النساء لم يكن يخرجن إلى الصلاة ليلاً فى المساجد قبل الاستقلال. نحتفل فى الجزائر هذه السنة بمرور ستين سنة على استقلال البلاد وعلى استعادة النساء حرية التنقل ليلاً بأمان، تحديداً فى شهر رمضان، والذى يكاد يكون الفسحة الزمنية الوحيدة، التى تُمنح فيها شوارع المدن وأزقة القرى وعداً بالأمن والطمأنينة للسيدات والفتيات والعجائز.

فى سنة 2020، توقّف لأوّل مرّة موسم الحج إلى منطقة بوفاريك خلال شهر رمضان. تقع منطقة بوفاريك الشهيرة بالزْلابية فى ولاية البْليدة، على بعد حوالى 28 كم من الجزائر العاصمة، وكانت البْليدة أوّل منطقة فى الجزائر ظهرت فيها حالات إصابة بفيروس كورونا فى شهر مارس 2020، ممّا أدى إلى فرض حجر صارم على سكانها ومنع الدخول إليها.

يُصاب الرجال تحديداً، بما يشبه «وِحام الزْلابية» فى شهر رمضان، الوِحام الذى يدفعهم إلى تضييع ساعات طويلة فى زحمة السير للوصول إلى محلّ من محلات الزْلابية فى بوفاريك عوض شرائها من محل قريب وأقل ازدحاماً. لكن، يبدو أنها طريقة أخرى لقتل الوقت، حتى يصل آذان المغرب بسرعة وأحياناً بعيداً عن المناكفات العائلية.

يُقال ان أكثر ما يفتقده المغتربون (والغرباء عن زمنهم) هو «رِيحة رْمْضان». ثمّة اعتقاد راسخ بأن لرمضان رائحة خاصة، عطرا ينبع من مكان خفى قد يكون على الأرجح قلب السماء، السماء التى تحمل خطوات الشمس وأنفاس المحبين. لكننا نكتشف مع الوقت أنها تنبع من «قلب اللوز»، الحلوى التى تنافس الزْلابية فى المكانة والشهرة وتَدافُع الصائمين. كما تنبع من البيوت بعد صلاة العصر، تحديدا من النَّعناع، والكَرَفْس، والكُزْبَرَة، تلك الأعشاب التى توضع فى شُوربة الفريك لتمنحها مذاقاً يشير إلى مكان الأطفال المختبئين تحت الأَسرّة وفوق الخزائن. كما تمنحها رائحة نتبعها بعيون مغمضة وبثقة المبصرين، لنصل إلى طفولتنا ولنصل إلى أكمام الأمهات ولطفهم. الرائحة التى حين نشمها خارج شهر رمضان، نردِّد بحنان فائض: «إيه، والله ريحة رْمْضان».
 

اقرأ ايضا | الأدباء يستعيدون أيام الصبا: رحلة إلى «رمضان زمان»