عائد من الاختطاف! (1- 2)

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

كانت صرخاته تعلو فى قاعة المحكمة، يتوسل القاضى أن يخبره من هما والداه الحقيقيان؟!، هو لا يعرف شيئا عنهما، بعد أن مر ثلاثون عاما على اختطافه وعمره الشهر ونصف الشهر.. والآن أصبح أبا لطفلين، ومازال أصله ونسبه يتوقف على حكم المحكمة.


وقف الشاب الثلاثينى أمام قاضى الأسرة ببنها، ودموعه لا تفارق عينيه، طلب من الجميع إخباره الحقيقة كاملة، طالما أن أبويه اللذين عاش معهما أنكرا نسبه وطالبا القاضى بالحكم برفض أبوتهما له، بل وأقاما دعوى أمام القضاء الإدارى لحذف اسمه من شهادة الميلاد التى أصدراها له.

لم تجد صرخات ذلك الشاب وتوسلاته فى المحكمة عونا من أحد، الجميع ينتظر تحليل الـ dna لإثبات كونه الابن «البيولوجي»، لأبويه أم لا، وحتى يتأكد الوالدان كذلك أنه طفلهما «الرضيع» الذى تم اختطافه منذ 30 عاما ومازالا ينتظران عودته طوال هذه الفترة.


فى الساعة الثامنة مساء الاثنين الموافق عام 1983 بمحافظة الإسكندرية، كان المارة يلتفون حول سيدة بملابس ريفية تصرخ بصوت مرتفع «الحقونى.. ابنى اتخطف».

اقرأ أيضاً | إعفاء أسر ضحايا حرائق قبرص من تحليل DND

صرخات السيدة جذبت انتباه الجميع، أراد المارة معرفة تفاصيل أكثر عن الواقعة قبل قدوم الشرطة، لكن السيدة اكتفت بالقول إن ابنها عمره شهر ونصف الشهر وأنها تركته فى حضن شقيقته الكبرى، ثم ذهبت لشراء حلوى لها، وعند عودتها لم تجده.


سأل المارة الفتاة عما حدث؟.. اكتفت بالقول أن هناك سيدة كبيرة.. طلبت منها إحضار الدواء لها من هذه «الأجزاخانة»، وأخذت منها الطفل، وعندما عادت وجدتها اختفت فأسرعت إلى أمها وأخبرتها بما حدث.

شغلت القضية الرأى العام الإسكندرانى وقتها، عادت إلى مسامعهم قصص «ريا وسكينة»، وعصابات خطف الأطفال، وسط تعدد حالات اختفاء الأطفال فى المحافظة دون الكشف عن السبب.

أغلق السكان أبوابهم على أنفسهم من الخوف، أخذ الكثير منهم حذره، لا يخرج طفل إلا وبصحبة أحد من أفراد أسرته، لكن على الجانب الآخر بدأت الشرطة فى اتخاذ مسار تتبع الجناة للوصول إلى الطفل المختطف وإعادته إلى أسرته سالما.

كان الطفل قد وقع ضحية فى يد عصابة الاتجار بالبشر، وكانت وقتها أشهر عصابة فى ثمانيات القرن الماضى بالإسكندرية، حيث ركزت أعمالها «الإجرامية» فى البداية على إيهام البسطاء ببيع أعضائهم البشرية بمقابل مالى، ثم توسعت فى جرائمها، فأصبحت تختطف أطفال الشوارع وتبيع أعضاءهم لسماسرة الاتجار بالبشر، لكن اهتمام الرأى العام ووسائل الإعلام بالواقعة وقتها، ويقظة رجال الشرطة، دفعت الجناة إلى تبنى الطفل، فاستخرجوا له شهادة ميلاد ونسبوه إلى اسم زعيم العصابة، وتكفلت زوجته بتربيته.

عاش الطفل 10 سنوات فى منزل زعيم العصابة، لا يخرج للشارع إلا قليلا، يلعب ويلهو، ولا يشارك فى أى خطط تتبناها عصابة الاتجار بالبشر، فهو فى نظر أعضائها ابن زعيم العصابة، ورضاؤه من رضاء الزعيم.
لكن يشاء القدر أن يتعرض زعيم العصابة لأزمة مالية، وذلك بعد غلق الشرطة كافة المسارات أمامه للعودة إلى عمله «الإجرامى» مرة أخرى، ليقرر البحث عن منفذ مالى سريع.

لم يجد أمامه سوى التضحية بهذا الطفل الذى بلغ عمره الـ10 سنوات.. لعبت زوجته فى عقله، أخبرته أنهم قد يستفيدون ماليا من هذا الطفل، ليس لإخراجه للتسول فى الشارع، وإنما لبيعه إلى إحدى الأسر التى ترغب فى تبنى طفل بمقابل مالي.


فكر زعيم العصابة فى مخطط زوجته، لكنه تراجع أخيرا بعد أن علم أن الشرطة تراقبه جيدا، وتضع عينيها على كل تحركاته.  


قرر تجربة حيلة أخرى.. بحث عن أسرة أعلنت عن اختطاف ابنها بنفس الطريقة التى اختطف بها ذلك الطفل، ليقوم بإيهامهم أن هذا هو طفلهم المختطف، وأنه هو من اختطفه بنفسه فى محافظة الإسكندرية، وطلب فدية، شريطة أن يتم التسليم بعيدا عن الشرطة.

بالفعل.. تم التسليم بناء على شروط زعيم العصابة مقابل سداد 80 ألف جنيه له، وبمجرد أن تسلم الأموال وتنازل عن الطفل، كانت الشرطة له بالمرصاد، تم القبض عليه وإحالته للمحكمة التى أصدرت حكما ضده بالسجن المؤبد.

انتهت مرحلة زعيم العصابة بالقبض عليه وحبسه، وبدأت مرحلة جديدة فى حياة ذلك الطفل، فمن أب وأم يشاركان فى جرائم الاتجار بالبشر، إلى أب مدرس وأم موظفة بالشئون الاجتماعية.. وهى أسرة  بسيطة، كثيرا ما انتظرت عودة ابنهما المختطف، فقد كانت حياتهما مظلمة بعد اختفائه، توقفا عن كل شىء، وظلا شاردين، يبحثان فى كل قطعة من أرض مصر عن ابنهما، لكن دون جدوى، حتى أخبرهما زعيم العصابة بالواقعة، فعادت إليهما الحياة مرة أخرى.

استقبل الأبوان الطفل وكأنه مولود جديد عمره شهر ونصف، وهو الوقت الذى اختطف فيه  ابنهما خلال مصيفهما بالإسكندرية، أعادا ترتيب حياته من جديد، حذفا قاموس «الإجرام» من عقله والذى عاشه مع زعيم العصابة وزوجته، غيرا سلوكه الفوضوى القائم على السب والتسول، وبدآ فى إعادة ترتيب حياته من جديد.. أصبح له واقع متغير، التزام وأدب، اهتمام وتربية وتعليم، حرصا على النسب والعائلة والصهر، فهناك أم تسهر ليل نهار على راحته، وأب يعمل ولا يتوقف عن توفير مستقبل مبهر له.

الجميع كان يسعى لإسعاد ذلك الطفل، فليس لديهما غيره، هو ابنهما الوحيد الذى انتظرا عودته 10 سنوات كاملة بعدما توفيت شقيقته الكبرى فى حادث، وعجزا بعدها عن الإنجاب مرة أخرى، لكن يشاء القدر أن تهمس الأفواه فى الأذن، وتبدأ مراحل التشكيك من الأقارب والجيران حول نسب الشاب إلى والديه بعد عامين من العيش معهما.

ساعدت تغير ملامح الشاب الذى تجاوز عامه الـ12 على إدخال الشك إلى الأب والأم  كذلك، فلا يوجد ما يشبه والديه، ملامحه بعيدة عن الأب والأم، لذلك هناك أمر يحتمل الشك.. استجاب الأبوان لضغوط الأقارب والجيران.

بدآ يبحثان عن أى علامة تشير إلى نسبه إليهما، عامان وهما يتابعان سلوك الشاب، لكن جميع الأمور تشير إلى أن الفيصل فى إثبات نسبه لابد أن يكون من الخارج.

توجه الأب إلى الإسكندرية، بحث عن أسرة زعيم العصابة الذى سلم له هذا الطفل، لكن الجميع تهرب منه، فليس لدى أحد دليل يؤكد شكوك الأب، حتى إنه زار زعيم العصابة فى السجن لكنه رفض مقابلته.. وأخبره أنه ليس لديه ما يقدمه له، لأنه كان سببا فى إيداعه بالسجن مدى حياته.

لم يجد الوالدان بعد استشارة محاميهما سوى القضاء، ليكون الفصل النهائى فى مرحلة الشك التى يعيشانها تجاه ابنهما الوحيد، توجها إلى محكمة الأسرة ببنها، أقاما دعوى لبطلان نسب هذا الطفل لهما، قصا للقاضى، الواقعة بكل تفاصيلها، حكى الأب أنه تسلم ابنه من خاطفيه منذ 5 أعوام، واستخرج له شهادة ميلاد جديدة ونسبه إليه.. لكن بعد مرور ثلاثة أعوام فقط  تغيرت ملامح الطفل، وقد حان الوقت لإثبات نسبه لنا من عدمه.

تمت إحالة الدعوى إلى الطب الشرعى لإجراء تحليل dna للوالدين والشاب، الذى وافق دون غصب، فهو يريد كذلك طمأنة والديه فى كل شكوكهما. تم تداول الدعوى ثلاث سنوات بسبب رغبة المحكمة فى التدقيق بأوراق القضية الغريبة التى لديها، ليصدر القاضى قراره بتأجيل الحكم فيها لحين صدور تقرير الطب الشرعى.

خرج الجميع من المحكمة، طلب الأب من الابن أن يبتعد قليلا عن المنزل، نصحه بأن يسافر للعيش مع أقاربه فى إحدى قرى محافظة القليوبية حتى تهدأ الأمور وتظهر نتيجة الطب الشرعى، ويطمئن قلب الجميع، حتى لو استمر ذلك سنوات.

استجاب الابن لطلب الأب، اصطحب حقيبته وغادر إلى منزل أحد أصدقائه فى الريف، ظل هناك فترة كبيرة امتدت لسنوات، وبعدها حضر إلى بنها، مع إعلان محامى الوالدين أن الطب الشرعى انتهى من إعداد تقريره بشأن تحليل الـdna


وفى الصباح توجه الجميع إلى المحكمة، ومع انعقاد الجلسة سلم الطبيب الشرعى تقريره إلى القاضى.. والذى بدأ فى تلاوته وسط ترقب من الجميع.
نستكمل العدد القادم

إثبات النسب

 

اكتشفت قصة ذلك الشاب صدفة، رسائله المتعددة إلى أحد أصدقائى المحامين، كانت الخيط الذى قادنى للوصول إليه، تفاصيل بسيطة حملتها هذه الرسائل، لكن فى مجملها كانت تطلب الاستشارة القانونية.

اكتفى  الشاب فى رسائله عبر «الواتس آب» ببعض المعلومات عن قصته، أخبر المحامى أن حياته تتوقف على حكم القاضى وتقرير الطب الشرعي.


طلب منه المحامى تفاصيل أكثر للوقوف على قضيته، شرح له كل ما تم نشره فى الحلقة الأولي.. وما سننشره من تفاصيل فى الحلقة الثانية.


أراد الشاب أن يعرف موقفه القانونى إذا صدر الحكم بعدم نسبه إلى أبويه، فهو لا يعلم ما سيحويه تقرير الطب الشرعي.


قال للمحامي: «مرت  خمسة أعوام على مراحل التشكيك والتى بعدت فيها عن والدى حسب طلبهما.. نصحنى أهل الخير بأن أتزوج .. ورزقنى الله بطفلين أعمارهما ثلاثة أشهر وثلاثة أعوام.

كل ما أخشاه هو أن نسب أسرتى  يتوقف على حكم القاضي، فأى قرار غير إثبات النسب سنصبح جميعا بلا أصل، ولن يكون لنا اسم فى سجلات الدولة».


نهاية وعدنى المحامى وحيد صابر الذى يتابع قضية هذا الشاب.. بشرح الموقف القانونى فى الحلقة القادمة، لذلك  نحن فى انتظار التفاصيل».