سماؤنا تتسع لطيور العالم

هجرة الطيور| مصر تضم ثانى أهم مسارات هجرة الطيور عالمياً

أسراب اللقلق الأبيض المهاجر
أسراب اللقلق الأبيض المهاجر

أعدت الملف: ندى البدوى
«الطيور مشردة فى السماوات.. ليس لها أن تحط على الأرض.. ليس لها غير أن تتقاذفها فلوات الرياح»، ربما كانت كلمات الشاعر الراحل أمل دنقل فى قصيدته «الطيور» الأقرب لوصف رحلاتها المحفوفة بالمخاطر.. ملايين الطيور المهاجرة تعبر سماء مصر سنويا فى تشكيلات جمالية ساحرة، تقطع أسرابها آلاف الأميال لتستريح قليلا قبل متابعة رحلتها صوب القارة السمراء.
لكن أجواء الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا حالياً، لا تنعكس آثارها على البشر فقط، بل تطال أيضًا الطيور المهاجرة التى زارت مصر فى رحلة طويلة قادمة من مواطنها فى دول القوقاز بوسط وجنوب آسيا والدول الاسكندنافية وشرق أوروبا ودول البلقان، ليصبح السؤال: هذه الطيور ستواصل رحلتها بعد ذلك إلى أفريقيا فهل ستتمكن لاحقا فى الربيع من العودة إلى مواطنها الأصلية مجددًا؟

رغم كل المخاطر التى تعترض طريقها تُهاجر الطيور فى حركةٍ منتظمة من منطقة لأخرى فى العالم مدفوعةً بغريزة البقاء، وهى عمليةٍ مُعقدة تتداخل دوافعها بحثًا عن الدفء والظروف المواتية للحصول على الغذاء والتزاوج، فضلاً عن عملية الانتخاب أو الاصطفاء الطبيعي، للحفاظ على الجينات الوراثية الأقوى والأكثر كفاءةً والأقدر على الاستمرار. وتتخذ هجرة الطيور مواسم ومسارات محددة بين موائل الإقامة والتكاثر، ومناطق «التشتية» التى تُمضى بها موسم الشتاء، حيث تُهاجر غالبًا من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، لتعود مجددًا لمواطنها الأصلية خلال الرحلات العكسية.


ترجح العديد من الدراسات العلمية أن السلوكيات التى تتبعها الطيور أثناء هجرتها تحكمها آليات عديدة للتوجيه والتكيّف وتحديد اتجاه مساراتها، باتباعها خطوط المجال المغناطيسى للأرض، واستعانتها بعلامات الشمس والنجوم واتجاهاتها، فضلاً عن استدلالها بالتضاريس الأرضية. هذه العملية مازالت محل نظر العلماء والباحثين حول العالم، خاصة مع تزايد الآثار السلبية للتغيرات المناخية على التنوع البيولوجى وهجرات الكائنات الحية على كوكب الأرض. 


أسراب الطيور الساحرة التى تُزيّن سماء مصر، تأتى خلال موسمين رئيسيين للهجرة كما يوضح الدكتور أسامة الجبالي، مدير مشروع صون الطيور الحوَّامة المهاجرة، قادمة فى رحلة أشهر الخريف من دول القوقاز بوسط وجنوب آسيا، والدول الإسكندنافية وشرق أوروبا ودول البلقان وغيرها إلى شرق وجنوب أفريقيا، بينما تعود فى فصل الربيع لمواطنها مجددًا. مؤكدًا أن مصر تحظى بأهمية كبيرة لهجرة الطيور، نظرًا لموقعها الذى يمر به ثانى أهم مسار لهجرة الطيور الحوّامة على مستوى العالم وهو مسار البحر الأحمر والأخدود الأفريقى العظيم، ويأتى بعد خط بنما الذى يربط بين الأمريكتين.


يتابع: هذه الطيور لا تعبر عادةً الموانع المائية الكبيرة أثناء هجرتها لكن يمكن أن تعبر الخلجان، لذا نجدها تتجنب البحر الأحمر بينما تدخل مصر من سيناء إلى منطقة خليج السويس وحتى جبل الزيت وتستمر بطول الساحل إلى أفريقيا، وهذه المنطقة شديدة الحساسية للطيور، وتُشبّه بعنق الزجاجة لأنها تشهد عبور نحو مليونى طائر سنويًا فى حيز ضيق، ويرجع ذلك إلى التركيبة الفسيولوجية للطيور الحوّامة وخصائص الطيران التى تتمتع بها، فالجوارح ومنها أنواع العقبان والنسور والصقور والبجع وطيور اللقلق الأبيض وغيرها، تعد من الطيور كبيرة الحجم، التى تحتاج إلى توفير طاقتها بشكل كبير أثناء الحركة.


يضيف: لذا نجدها تعتمد فى طيرانها على تيارات الهواء الصاعد التى تتكوَّن على اليابسة فى شكل دوامات دائرية، على ارتفاعات كبيرة تصل إلى 3 آلاف متر، تشرع هذه الطيور أجنحتها وتنزلق مع تيارات الهواء دون أن ترف بأجنحتها.


هذا المسار يمر به 37 نوعًا من الطيور الحوامة المهاجرة كما يوضح الجبالي، تضم وفقًا للقوائم الحمراء التى يحددها الاتحاد الدولى لصون الطبيعة، خمسة أنواع مهددة بخطر الانقراض منها النسر المصرى وعُقاب السهول والعُقاب الملكى بينما قارب صقر الغروب على هذا الخطر. الطيور المهاجرة تواجه العديد من المخاطر التى تعمل وزارة البيئة على مواحهتها، حيث نجحنا من خلال المشروع فى جعل مسار البحر الأحمر والأخدود الأفريقى أكثر أمانًا للهجرة، وهو مشروع إقليمى يضم 11 دولة تقع فى هذا المسار على رأسها مصر والأردن ولبنان وفلسطين، ننفذه هنا بالتعاون مع البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة ومرفق البيئة العالمى والمجلس العالمى للطيور.


يعمل المشروع كما يشير الجبالى على دمج آليات حماية الطيور فى القطاعات التنموية الرئيسية التى تشكل خطرًا عليها، وعلى رأسها قطاعات الكهرباء والطاقة والصيد والزراعة وإدارة المخلفات، مع تشجيع ودعم السياحة البيئية ومشاهدة الطيور، متابعًا: كان لدينا تحدٍ كبير فى مناطق خليج السويس ورأس غارب وجبل الزيت والمناطق الواعدة فى مشروعات طاقة الرياح، كونها تقع فى مسار هجرة الطيور، نجحنا فى عمل وإدارة منظومة متكاملة بالتعاون مع هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة، بوضع خطوط إرشادية من خلال خارطة الحساسية للطيور الحوّامة التى تعد أداة تخطيط لقطاعات الطاقة لمراعاة التنوع البيولوجي، وتقييم الأثر البيئى للمشروعات قبل الإنشاء، ونفذنا منظومة الغلق عند الحاجة لتوربينات مزارع الرياح أثناء مرور الطيور.


يتابع: نجرى تدريبات على أعلى مستوى لمراقبى الطيور والكوادر المسئولة عن متابعة مرورها فمن خلال مركز التميز البيئى للتدريب الذى أقمناه فى جبل الزيت، دربنا 150 فردًا حتى الآن، ونستهدف الوصول إلى 300 من الكوادر المتخصصة، ما يُسهم فى استدامة نظم حماية الطيور ويخلق المزيد من فرص العمل مع التوسع فى إقامة المحطات. هذه الدورات التدريبية متاحة لخريجى تخصصات الطب البيطرى والزراعة والعلوم ومن لديه اهتمام ودراية بمجال مشاهدة ومراقبة الطيور، نهتم أيضًا بإشراك السكان المحليين فى منطقة رأس غارب، واللافت أن عدد السيدات المقبلات على هذا المجال فى تزايد مستمر.


ويشير إلى أن هناك اختبارات تُجرى بعد كل دورة لتقييم كفاءة المشاركين قبل ضمهم للمنظومة، فلا بُد للمتدرب أن يقضى 480 ساعة من التدريب العملى فى الموقع بعد اجتياز الاختبار النظرى ليتم اعتماده. متابعًا: استحدثنا نظامًا جديدًا للاعتماد والجودة لمراقبى الطيور سيبدأ تطبيقه خلال الموسم المقبل، وضعنا به معايير للاختيار والتقييم ستُتيج لهذه الكوادر العمل بشكل منظم ومعتمد دوليًا. وتتم إجراءات الحماية بالتوازى مع خطة دعم سياحة مشاهدة الطيور، حيث نعمل على دمجها فى البرامج السياحية بنطاق جنوب سيناء والبحر الأحمر للشركات السياحية والفنادق، ودربنا 110 مرشدين سياحيين فى شرم الشيخ على مشاهدة الطيور، ويوجد العديد من نقاط المراقبة فى شرم الشيخ ومحميات رأس محمد ونبق وسانت كاترين وغيرها، هذه النقاط نسعى لزيادتها وتعظيم استغلالها فى جذب السياحة البيئية.


ويوضح الدكتور عادل سليمان، مسئول التدريب بمشروع صون الطيور الحوّامة المهاجرة، أن التجربة المصرية فى حماية الطيور فريدة وحظيت بإشادة دولية واسعة، من بينها حصول المشروع على جائرة الطاقة العالمية، فمصر رائدة أفريقيًا وعربيًا فى تطبيق أنظمة الحماية بمزارع الرياح وتحويلها إلى منظومة معتمدة دوليًا، فى السابق كنا نعتمد على خبراء أجانب فى هذا المجال، فلم يكن لدينا خبرات وطنية متخصصة قبل أن نطوّر برنامج التدريب الاحترافى الذى نطبقه الآن بالتعاون مع هيئة الطاقة المتجددة.
ويُشرف على التدريب متخصصون فى التنوع البيولوجى وخبراء الطاقة، ويمر بعدة مراحل أولها المرحلة النظرية التى تتعلق بعملية التعريف والتصنيف، حيث يوضح سليمان: ندربهم على تعريف الطيور من حيث صفاتها الشكلية، والفروقات بين الأنواع فى التكوين وشكل المنقار ولون الرأس والريش وطريقة الطيران، وغيرها من الفوارق الدقيقة التى تُحدد نوع وجنس الطائر، لتأتى بعد ذلك مرحلة العد والتسجيل، فهناك آلية معينة لعد أسراب الطيور بطريقة سريعة وأقرب إلى الدقة، تعتمد على قوة الملاحظة وتحديد نوع الطائر وحجمه والمساحة التى يحتلها السرب بشكل عرضى وطولي، كما يتم تدريب المُشاركين على عد الطيور النافقة.


يضيف: وهناك مرحلة أعلى من التدريب المتقدم الخاص بمنظومة غلق التوربينات، هذه المنظومة تحتاج إلى دقة شديدة وقوة ملاحظة وإلمام بكافة الظروف الخاصة باتجاهات الهواء وسرعة الرياح، وارتفاعات الطيران لدى الطيور والسلوك الذى تتخذه الأسراب لتجنب الاصطدام بتوربينات الرياح. هذه العملية تتدرج مسئوليتها بشكل تراتبى فى الموقع، وفقًا لعدة مراحل يُشرف عليها فريق متكامل، حيث تبدأ من رصد أسراب الطيور عن طريق الرادار الذى يعطى إشارة للمراقب، ليقوم بدوره بإبلاغ المسئول حسب السلوك الذى يتخذه السرب لتجنب الاصطدام واتجاه حركته، ليتخذ المنسق العام قرار الإغلاق، مع مراقبة حركة السرب حتى يعبر بشكل تام.