«الإفتاء» توضح حكم التجريح في علماء الدين عبر الفضائيات

دار الافتاء المصرية
دار الافتاء المصرية

كثر المتصدرين من الشباب المتدين في المساجد والفضائيات والمجالس العلمية، والذين يفتون الناس في المسائل الشرعية، ويتناولون آراء العلماء بالنقد والتجريح، وربما وصل الأمر بهم إلى التجرؤ على العلماء القدماء والمعاصرين، والتشكيك في مناهجهم ونواياهم، فما الحكم في ذلك؟.

وأجابت دار الافتاء قائلة: ميَّز الله تعالى أهل العلم وفضَّلهم في كتابه الكريم؛ فقال: ﴿شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لَا إِلهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18]، فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنَّى بالملائكة، وثلَّث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفًا وفضلًا وجلاًء ونبلًا، وقال عز وجل: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9].

واستشهدت دار الإفتاء بقول الإمام الآلوسي في تفسيره «روح المعاني» (23/ 246، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت): [والاستفهام: للتنبيه على أن كون الأولين - وهم العلماء - في أعلى معارج الخير، وكون الآخرين في أقصى مدارج الشرِّ من الظهور؛ بحيث لا يكاد يخفى على أحدٍ من منصف ومكابر] اهـ، مشيرة الي أن العلماء رفعهم الله على مَن سواهم من المؤمنين، والمؤمنون رفعهم الله على مَن سواهم؛ فقال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]. قال الإمام ابن قدامة المقدسي في "مختصر منهاج القاصدين" (13/ 1): [قال ابن عباس رضي الله عنهما: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام] اهـ.

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]. قال الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (22/ 304، ط. دار سُحنون، تونس): [وإذا عُلِم ذلك؛ دَلَّ -بالالتزام- على أن غير العلماء لا تتأتَّى منهم خشية الله، فدلَّ على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون] اهـ.

وأَمَرَ اللهُ عز وجل سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأله المزيد من العلم؛ فقال سبحانه: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]، أي: قل يا محمد: رب زدني علمًا إلى ما علمتني؛ أَمَرَهُ بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم.

وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» متفق عليه.

وقال الإمام الآجري في "أخلاق العلماء" (ص: 28، ط. رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، السعودية): [فلما أراد الله تعالى بهم خيرًا فقّههم في الدين، وعلَّمهم الكتاب والحكمة، وصاروا سراجًا للعباد ومنارًا للبلاد] اهـ.

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفضلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ»، ثُم قَال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعْلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ» أخرجه الترمذي.

وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: «الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ» أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان.

ومعلومٌ أنه لا رتبة فوق النبوَّة، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ، وَفِقْهٌ فِي الدِّينِ» رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ويَعْرِفْ لَعَاِلِمِنَا حَقَّهُ» أخرجه أحمد.

ويروي الإمام ابن قيم الجوزي في «إعلام الموقعين» (2/ 257، ط. دار الجيل، بيروت) عن الإمام أحمد قوله: [الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلم يحتاج إليه في كل وقت] اهـ.

وبينت دار الإفتاء أنه ينبغي التفرقة بين العالم والواعظ أو الداعية؛ فبعض الناس قد رسخت في أذهانهم أسماء قوم لا علاقة لهم بالعلم، ورسوخ الأسماء في الأذهان له أثرٌ كبيرٌ في الاقتداء والمحبة؛ وذلك لاغترارهم بالقدرة الخطابية عند هؤلاء، ظنًّا منهم أن ذلك برهان على العلم، ولذلك ترى عوام الناس -غير المتخصصين- يتسارعون إلى الواعظ والخطيب أكثر من تسارعهم إلى العالِم؛ روى الإمام البخاري في "الأدب المفرد" (1/ 422) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إنكم في زمانٍ كثيرٌ فقهاؤه قليلٌ خطباؤه، وسيأتي من بعدكم زمانٌ قليلٌ فقهاؤه، كثيرٌ خطباؤه".

وقال الإمام ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص: 151، ط. دار الكتاب العربي، بيروت): [كان الوعاظ في قديم الزمان علماء فقهاء، وقد حضر مجلسَ عبيد بن عمير عبدُ الله بن عمرَ رضي الله عنهم، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يحضر مجلس القاص، ثم خسَّت هذه الصناعة، فتعرَّض لها الجهال، فَبَعُدَ عن الحضور عندهم المميزون من الناس، وتعلَّق بهم العوام والنساء، فلم يتشاغلوا بالعلم، وأقبلوا على القصص وما يعجب الجهلة] اهـ.

وتابعت: وليت هؤلاء الوُعَّاظ قبلوا أن يُوصفوا بذلك، مع قلة بضاعتهم فيها أيضًا، ولكنهم ادعوا العلم فتصدروا للإفتاء والتدريس، فتسببوا في فتنة الناس بإبعادهم عن الحقِّ والمنهج القويم، وصحَّ أن يقال فيهم ما قاله الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (7/ 153): [قوم انتموا إلى العلم في الظاهر، ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير، أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يَدُر في أذهانهم قطُّ أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخًا يُقتدَى به في العلم، فصاروا همجًا رعاعًا، غاية المدرس منهم أن يُحصِّل كتبًا مثمنة يخزنها وينظر فيها يومًا ما، فيصحف ما يورده ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو] اهـ.

وقال الخطيب البغدادي أيضًا في "الجامع لأخلاق الراوي والسامع" (1/ 75، 77، ط. دار الكتاب العربي، بيروت) عن أمثالهم: [وقد رأيت خلقًا من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويعدون أنفسهم من أهله المتخصصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يدَّعون وأقلهم معرفة بما إليه ينتسبون، يرى الواحد منهم إذا كتب عددًا قليلًا من الأجزاء، واشتغل بالسماع بُرهة يسيرة من الدهر أنه صاحب حديث على الإطلاق، ولمَّا يجهد نفسه ويتعبها في طلابه ولا لحقته مشقة الحفظ لصنوفه وأبوابه.. وهم مع قلة كتبهم له وعدم معرفتهم به أعظم الناس كِبْرًا وأشدُّ الخلق تِيهًا وعجبًا، لا يراعون لشيخ حرمة ولا يوجبون لطالبٍ ذمَّة، يخرقون بالراوين ويعنفون على المتعلمين خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه] اهـ
وأوضحت دار الافتاء ان عدم وضوح الفرق بين العلماء وغيرهم في أذهان الكثير هو ما أدى إلى ظهور غير المتخصصين المتعالمين، ومِن ثَم تدخَّلوا في الفتوى، وسعوا للإدلاء بآرائهم في قضايا الفقه المقارن، حتى وجِدَ اختلاط كبير في عصرنا الحاضر بين مَن يقوم بالإفتاء والوعظ، مما أوقع الناس في الحيرة الشديدة التي نراها اليوم، ونلمسها جميعًا.

فلا يصحُّ أن يتعرَّض لمسائل الإفتاء وقضايا الفقه المقارن إلا من تأهَّل علميًّا لذلك، وذلك بدراسة الفقه والأصول وقواعد الفقه دراسة مستفيضة، ويكون له دُرْبَة في ممارسة المسائل العلمية والمناقشات الفقهية، وله معرفة ودربة لعلم الحديث عامة، والجرح والتعديل خاصة، وكذلك التمكن الإجمالي من علوم العربية: اللغة، والصرف، والنحو، وعلوم البلاغة الثلاثة، وإلمام جيد بالواقع المعيش، ويُفَضَّل في العصر الحالي أن يكون قد نال الدراسات العليا في جامعات معتمدة في ذلك التخصص؛ وكل ذلك لحسم فوضى الفتاوى التي تثار هنا وهناك ممن لم يتخصص في علم الفقه والأصول، ويعترض ويناظر على فتاوى ما درس مبادئها الفقهية، ولا أصولها، ولقد تكلم في أهمية التخصص في الفقه العلماء القدامى، وقد قالوا قديمًا: "من تصدَّر قبل أن يتعلم، كمَن تزبَّب قبل أن يتحصرم"؛ أي: صيَّر نفسه زبيبًا قبل أن يصل إلى حالة النُّضْج، وللأديب علي بن زيد البيهقي رسالة باسم "تنبيه العلماء على تمويه المتشبهين بالعلماء".

على أن تصدُّر هؤلاء المتعالمين لما هم ليسوا له أهلًا يُعدُّ سببًا رئيسًا في التجرؤ للطعن في العلماء؛ فإن تجرؤَهم بالخوض في قضايا الفقه المقارن والفتوى -مع قلة بضاعتهم، ومع السرعة في الوصول إلى تلك المكانة الشريفة، وكل ذلك مع الحط لكل مخالف لهم وازدرائه، ووسمه بالجهل- جعل بعضَ الناس يتساهل في تخطئة العالم والخوض في عِرضه، بما لا يليق في حقِّ عموم الناس، فكيف بعلمائهم؟.

ولا حرج أن يختلف المرء مع عالمٍ أو داعية في رأيٍ أو اجتهادٍ متى كان أهلًا لذلك، ولكن الحَرَجَ في تحوُّل هذا الاختلاف إلى مِعْولِ هدمٍ لمكانة هذا العالِم، والحطِّ من قدره، وازدرائه، وسوء الأدب معه.

أقرأ أيضا: ما حكم صلاة المسافر في وسيلة المواصلات؟.. «الإفتاء» تجيب