أمس واليوم وغدا

معركتنا ضد كل أنـواع التطرف

عصام السباعي
عصام السباعي

أصارحكم فى البداية بأننى قد ترددت كثيراً فى تناول هذه القضية، فالمزايدات هى الغالبة عليها، فضلاً عن تدنى لغة الحوار والتنابز بالألقاب، رغم أن عنوانها هو التنوير والتحديث، ومضمونها يجب أن يكون فى صف وحدة الوطن، ونصيراً لمعانى التسامح وقبول الآخر.

وتحول الأمر بكل أسف إلى حملات تراشق بين مجموعتين من المتطرفين، إحداهما فى أقصى اليمين حيث توجد جماعات التطرف فى الدين، والثانية فى أقصى مواقع التطرف بعيداً عن الدين، والغريب أن المعسكرين رغم أنهما فئتان صغيرتان هامشيتان فى المجتمع المصري، ولكن صوتهما عالٍ لدرجة عالية من الصخب والضجيج، لا تجعل المجتمع قادراً على التمييز بين الغث والسمين، وفرز ما هو مفيد وتبنيه، وبين ما هو ضار بحيث لا نستبقيه، وكذلك تداخل المفاهيم وتعالى صوت الاتهامات المتبادلة، وفرضت تلك المعارك الرخيصة نفسها على المجتمع بكل ما تحمله من مضار وأضرار على مسيرة المجتمع وقوته وانتعاشه وفتوته، والغريب أن كل ذلك يحدث والشعب المصرى يخطو بتقدم وثبات نحو الجمهورية الجديدة، التى تعتمد على العلم والعمل والإنتاج والعرق والتصدير والابتكار والفن والتسامح واحترام المعتقد والعدل والإيمان بحق الاختلاف وسيادة القانون والتلاحم بين المصريين دونما تفرقة على أساس لون أو جنس أو دين، وكلها مقومات موجودة فى جينات المصريين، وأزعم أن التلاعب فى تلك الجينات والقيم المصرية من مهددات الأمن القومى المصرى التى يجب التنبه إليها وإطلاق الضوء الأحمر إذا ما تعرضت لأى خطر.

لقد نجحوا بامتياز فى تشويه معنى كلمة «سلفي» برغم أن مصر كلها سلفية، فكنيستنا المصرية سلفية تقوم على تعاليم وتقاليد الرسل والقديسين والصالحين، وهكذا تأتى أهمية كتب مثل الدسقولية أو السنكسار، كما أن مصر هى زعيمة العالم السنى السلفي، والأزهر هو قبلة السلفيين ومعقل علم أهل السنة، ومحاولة إشعال فتيل الفتن بين فئات المصريين وقطع جسد الأمة الذى يعبر عنه الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر إمام السلفية الإسلامية، والبابا تواضروس بابا الإسكندرية، الحافظ لتقاليد وتعاليم الآباء والسلف المسيحى الصالح، ومحبة كل الأولياء والقديسين، المهم أن الأمر اختلف هذه المرة، لأن ما يحدث بات يهدد مسيرة مصر ويشغل الناس عن العمل والإنتاج، ويلهى المصريين عن مواجهة التحديات ويغرقهم فى الفتن والخلافات، وهو محاولة تشويه القيم المصرية وعناصر التجانس فيما بينهم، وإغراق المجتمع فى قضايا تافهة تشغلهم عن معاركهم الحقيقية، وخذوا عندكم الملاحظات التالية:

الأولى: كيف يسمح برنامج عمرو أديب لشخص محدود الأفق والعلم ومشبوه بأن يقول لشيخ الأزهر أنت مخطئ، لا أتحدث هنا عن قضية ضرب الرجل لزوجته، وهى قصة قد حسمها شيخ الأزهر ووضحها، فالقاعدة الأساسية إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولكن القضية الأساسية هى تلك الجرأة الشديدة و«الجليطة» والوقاحة فى مخاطبة مقام شيخ الأزهر، ولمصلحة مَن إثارة أزمة وترويج شائعات عن كلام لا صحة له فى الدين أو صدورها من شيخ الأزهر؟

الثانية: ما المرجعية المهنية والأخلاقية لتلك القناة التى سمحت بالتجاوز فى حق شيخ الأزهر، خاصة إذا كان هناك تنويه لأحد برامجها «الحب من أول ديت - موعد غرامى -»، وشاب يسأل فتاة: بصراحة كان عندك مع حد ريليشنشيب وبستيه؟»، وكذلك القناة التى تذيع برنامج إبراهيم عيسى، وقد سبق لها إذاعة برنامج إسلام بحيري، وهل نعتبر أن لها موقفاً محدداً من التهكم على أهل السنة والأزهر؟ وفيما يتعلق بالرعاة، هل مشاهدو البرنامج من عملاء البنك الزراعى بحيث يقوم بالرعاية؟ ومن منتج ذلك البرنامج؟ أم أنه هدية ومن الذى قدمها ومن الذى قبلها؟.

الثالثة: هل لو نفذنا كلام «براغيث التنوير» التى تأكل «عيش» من التنوير، ويهاجمون الأزهر والتراث، ولغينا التراث والأزهر كله، سنكون عندها «متنورين» وأصحاب حضارة وستنتهى مشكلة التخلف؟

الرابعة: ما تلك الضجة المثارة التى فرضها علينا عدد محدود من المتطرفين فى الدين أو بعيداً عن الدين بعد وفاة سيد القمنى؟، الرجل مات وحسابه عند الله، من الذى جعل السؤال الرئيسى هل سيدخل النار أم الجنة؟ ثم من الذى أدخل ابنته فى الحوار لتحاول أن ترسى لنا قيمة غير مقبولة فى المجتمع، فتقول عن أبيها «وحتى إن كفر فهو أطهر من أطهرهم»، وتتجاوز فى الكلام وتضيف: «ولم يقل كلمة واحدة خطأ وسأعيش عمرى كله باسم بابا وما تركه، فهو لم يغلط فى أحد ولا فى شيء، بل كان عنده بعد نظر، وكلما مر الوقت أتأكد أنه كان على صواب»، ولا أدرى هل تقصد عدم احترام الأديان والسخرية من الأنبياء وسلاطة اللسان فى تناول مقدسات ومعتقدات الآخرين والتقليل من شأن ستنا مريم أطهر نساء العالمين، ولم أكن أتمنى أن يربط البعض بين نقد كلام الرجل وبين جماعة الإخوان الإرهابية، وكأن أى نقد له لابد أن يصدر من إخوانجي، كنوع من ترهيب الآخرين من انتقاده، رغم أن الرجل كفر نفسه بنفسه، وفى كل الأحوال كانت الأمور هادئة لولا تصعيد ابنته، ومحاولة البعض صناعة «إيمدج» له على أنه نموذج للتفكير العقلى، فى حين أنه لا يمكن أن يصدر عن عاقل مثل تلك «الترهات»!.

الخامسة: شغلونا بقضية تافهة أخرى مثل حق المرأة فى الزواج من أربع مثل الرجل، وكأن كل رجل حولهم متزوج من اثنتين وليس أربعاً، وكأن كل الناس لديهم القدرة على الزواج بأكثر من واحدة، ويشغلوننا بقضايا أكثر تفاهة مثل تصريحات المخرج والمنتج المصرى هادى الباجورى عن زوجته الممثلة ياسمين رئيس على قناة التنوير mbc مصر!»

السادسة: يدعون إلى تهميش الأزهر، تلك القوة الناعمة الرهيبة التى تمتلكها مصر وهبة الله للمصريين، وذلك استناداً لقاعدة أن أوروبا لم تنهض إلا بتهميش الكنيسة، وهو كلام لا صحة له، فالكنيسة كانت شريكا فى تحقيق النهضة، وشاركت فى تمويل الاستكشافات الجغرافية والاكتشافات العلمية والإنجازات الفنية التشكيلية، وكانت مفتاح التنوير فى أوروبا، ولم يهمش أحد سلطات الكنيسة، فالكاتدرائية أصبحت دولة لها مخصصات مالية، وسفراء فى معظم دول العالم وصوت مالى ودبلوماسى له تأثيره.

السابعة: تخوض مصر بكل أجهزتها معركة الإصلاح الشامل فى وسط مناخ إقليمى ودولى بالغ الصعوبة، وتحديات داخلية ليست بالسهلة، ونجد هؤلاء يثرثرون فيما لا فائدة منه، يحملون سيوفاً من ورق لخوض معارك من ورق، وكم أتمنى لو مارست مراكز التفكير والجامعات دورها التنويري، ولا تتركه لبراغيث وتجار التنوير، لأن استمرار تلك الحالة وصمة عار فى حق كل المجتمع والمثقفين وكليات الآداب، وفى مقدمتها آداب القاهرة، قولوا لنا أين بحوثكم التطبيقية فى الفكر الإسلامى ودراسات الحالة التى قمتم بها؟.. أرجوكم كونوا تلاميذ بررة لطه حسين وزكى نجيب محمود، وأرجو هنا من المجلس الأعلى للجامعات أن يضع خطة من أجل تجديد الخطاب الدينى والفكر الإسلامى، وقضايا التنوير باعتبار ذلك مهمة قومية.

الثامنة: أنصح أى مهتم بقضية التنوير بقراءة كتابين للمفكر السورى الكبير هاشم صالح، الأول: الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير فى العالم العربي؟ والثاني: «معارك التنويريين والأصوليين فى أوروبا»، ولن يندم، وسيجد الفرق الكبير فكرياً ولغوياً وعلمياً عما يطرحه هؤلاء البراغيث.
ويارب احفظ مصر من المتطرفين بكل أنواعهم وفئاتهم، ويارب انصرها واجعل النجاح حليفها فى تحقيق انطلاقتها الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والحضارية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسى، وذلك مرهون بما يقوم به المصريون حاليا من جهد فى أكبر ملحمة تنموية تقوم على العلم والعمل والعرق.. ودومًا وأبدًا تحيا مصر.

بوكس

حتى طرح الأفكار يحتاج إلى ذوق وأدب