الشاعرة صفاء فتحي: روحي لن تتوافق مع قصيدة تفعيلة

الشاعرة صفاء فتحى: روحى لن تتوافق مع قصيدة تفعيلة
الشاعرة صفاء فتحى: روحى لن تتوافق مع قصيدة تفعيلة

ولدت صفاء فتحى فى المنيا، فى صعيد مصر فى 17 يوليو 1958. درست الأدب الإنجليزى فى مصر وشاركت فى الحركات الطلابية لكنها لاحقا غادرت البلاد واستقرت فى باريس عام 1981. فى عام 1987 درست المسرح الألمانى فى ألمانيا الشرقية وفى عام 1990 التقت صفاء مع الشاعر والمسرحى الألمانى المعروف هاينر موللر وتعاونت معه. أنهت رسالة الدكتوراه فى الأدب المقارن الإنجليزى والألمانى من جامعة السوربون عام 1993. صدر لها بالفرنسية مسرحيتان إرهاب ومحنة (اوردالي) التى كتب جاك دريدا فيلسوف فرنسا الكبير مقدمتها، ومن مجموعاتها الشعرية الصادرة العربية: «اسم يسعى فى زجاجة 2010»، «وثورة وحائط نعبره 2014» . قبل أن تقدم العديد من الأفلام السينمائية المهمة منها: «محمد ينجو من الماء» و «دريدا من جهة أخرى»، عملت كمخرجة مسرح كما عملت مديرة برامج بالكلية الدولية للفلسفة فى باريس. صفاء فتحى تكتب رواية باللغة الإنجليزية منذ خمس سنوات. 

نحن نحيا فى لحظة استيعاب للأفكار السابقة ومحاولة قراءتها وتمثُّلها ولسنا فى حالة ابتكار أو إبداع لأفكار جديدة

للتعرف على عوالم صفاء فتحى الإبداعية التى تظهر فى أكثر من شكل فنى وأدبى سألناها فى البداية:  مصادر الإلهام لدى الشعراء متعددة ومختلفة، من أين يأتيك وحى الشعر؟
من أشياء بسيطة وعديدة وقد يكون من بينها الحدث المطلق بطبيعة الحال؛ مثل الفقدان، المأساة أو الفجيعة، الحب أو التأمل. من حدث بسيط، من ملاحظة أو مشهد، أو حالة شخصية يعبر بها المرء فى لحظات معينة ويصبح التعبير الوحيد عنها هو القصيدة.

 

مثلا فى ديوانى الأخير «ثورة وحائط نعبره» بداية الكتاب جاءتنى بعد الأحداث الشهيرة التى وقعت أمام مبنى التليفزيون ، كتبت المجموعة كلها بسبب هذا المشهد. يمكن أن نسمى هذا إلهاما.. إجابة.. ردا.. صرخة.. تعليقا، يمكن أن نسميه أى شىء يتعامل مع حدث لا يقبل الوصف ولا حتى الفهم.


«اسم يسعى فى زجاجة» عنوان فيه من التجلى ما يوحى بنصوص صوفية فلسفية. فى رأيك هل للشاعر أن يكتب نصا فلسفيا بروح غير ممسوسة بالتصوف؟
طبعًا الشاعر ممكن أن يكتب نصوصًا ممسوسة بالتصوف أو غير ممسوسة به. ما حدث أننى كنت فى مرحلة ما من حياتى غارقة فى قراءة النفرى، كل يوم أصحو لأقرأه وكل النصوص التى كتبتها فى الديوان كانت فى حوار مع كتاب المواقف والمخاطبات، لذلك كنت أكتب قبل كل قصيدة ما انفعلت به أو تحاورت معه من عبارات النفرى، يبدو أننى أحببت أن أكون فى علاقة معه أو أنه هو من فجر بداخلى الكلام الذى كتبته. إن فكرة الصراع بين الشاعر والفيلسوف قديمة جدًا منذ أفلاطون. هايدجر هو أول من قام بطرح قراءة جديدة لهذه المعضلة لأنه شرع فى فلسفة علاقة الحقيقة بين الشعر والفكر.

هايدجر له كتب يستشهد فلسفيا فيها بـ «تراكل» و «وهولدرلين» الشاعرين الألمانيين الكبيرين. هناك أيضا فلاسفة ما بعد البنيوية فى فرنسا كدريدا الذى كتب ودخل فى علاقة فلسفية عميقة مع كثير من الشعراء منهم بول تسيلان وفرانسيس بونج، كذلك رولان بارت ونانسى وغيرهم الذين تعاملوا مع القصيدة باعتبارها ملهمة للفلسفة وانتفت لديهم تيمة الصراع بين (الشاعر) و(المفكر). تلك هى أيضاً قناعتى أن الشعر والفلسفة متآلفان أو لنقل إنهما شكلان مختلفان لتصورات ومفاهيم حدسية مكملة بعضها البعض. 


ديوانك الأخير  خير شاهد على كونك للآن منخرطة فى واقع بلدك، ليتك تلقين ضوءًا أكبر على هذا الديوان؟
انبثق هذا الديوان من حالة الحداد التى تبعت وفاة أخى، وعلاقة حالة الحداد هذه بأحداث الثورة التى جاءت بعد أقل من ستة أشهر من وفاته وكأنها جاءت لتعوضنى عما فقدته بوفاة أخى، وكأن هذا الحدث الجلل التحم بالحدث الجلل السابق عليه وهو وفاة أخى ومن هذه العلاقة الفريدة ظهرت قصائد المجموعة.


 الحداد فى ذاته ليس حالة شعرية ويمكن ألا يرتقى لها، ولكن مع وجود احداث الثورة حدث هذا الارتقاء ثم تواءم كل هذا مع بعضه وتداخل فى نسيج العمل، هذا النسيج المتشابك بعضه حداد على أخى، وبعضه على الثورة ، وبعضه به بهجة البدايات عندما رأينا قدرتنا على خلق مساحات وفضاءات رائعة لم نكن نتخيل أنها موجودة، بالإضافة لمفاجأة الحدث التى تحدت فكرة الحدث نفسها وأعادت خلقها مثلما يقول دريدا: «الحدث هو ما يغير المفهوم حول فكرة الحدث»، فلم يكن أحد يتصور فى ذلك الوقت إمكانية حدوث ثورة مصرية.

 

هذا الحدث العظيم الجلل هو ما أوحى لى بفكرة الكتابة التى هى إلى حد ما مملاة، جاءتنى ولم أنقب عنها ولها سياقات تاريخية ونفسية ومجتمعية لو حاولت الآن كتابة الديوان فى ظل غيابها لن أستطيع، هذه اللحظة بالذات كانت هى لحظة الكتابة ولو حاولت أيضا قبلها لفشلت.

من هنا أعتقد أننا نستطيع فهم جانب من جوانب الموهبة، فهى أيضا موهبة التزامن مع اللحظة التاريخية وترجمتها شعورياً وأدبياً. عادة ما أكتب بشكل لا تاريخى أى أن معظم كتابتى تقع خارج السياق التاريخى حتى فيما يخص النمط السائد للقصائد وللنصوص.

 

إلا فى تلك اللحظة لحظة كتابة ثورة وحائط نعبره، صارت كتابتى للمرة الأولى متزامنة تاريخيا مع واقع اللغة التى أكتب بها وسياقات اللحظة الحاضرة.


 وتنبهت إلى أهمية اللحظة عندما كانت الأحداث على وشك أن تصير سرداً تاريخيا مضى ولم تعد حاضرا يعاش عندها أدركت أنه لو لم يتم الكتابة عنها فى وقتها فإن اللحظة لن تعود ولن أستطيع استرجاع حقيقتها من الذاكرة.

رغم أن البعض يرى أهمية لعدم الكتابة عن الثورات إلا بعد مرور فترة كافية على حدوثها لتأمل وقائعها أو أنه من المستحيل الكتابة عن الثورات بالمرة، كتبت هذه المجموعة بسلاسة الماء ولم يكن هناك أى صعوبة فى كتابتها كأن المجموعة كانت متجمعة فى مكان ما برأسى وبضغطة خفيفة خرجت؟.

هذا لا يعنى أننى لم أعمل على النصوص بالعكس فقد عملت عليها طويلا بعد ذلك.


يولد الشاعر مهاجرا بخياله وكتاباته لكن هناك نوع من الهجرة أقسى يغادر فيها الشاعر بجسده وبعقله إلى بيئات إنسانية وثقافية مغايرة ولقد تنقلت صفاء فتحى بين محطات عديدة: المنيا، فرنسا، ألمانيا، وإسبانيا وغيرها.. هل كان لتجربة الهجرة أثر مباشر على كتابتك للقصيدة والأشكال الفنية الأخرى كالمسرح والسينما؟


أول انفصال يحدث فى الهجرة هو الانفصال عن اللغة. الكاتب الذى يصر على الكتابة بلغته الأم يتناول ويتعامل مع هذه اللغة من موقع الانفصال عن هذه اللغة، أى أن أول شرط من شروط المنفى هو أن تصبح لغة الأم لغة الذاكرة أو الأرشيف وبالتالى دخولها فى قالب غير تاريخى.

لست وحدى فى هذه الحالة فهناك شعراء كثيرون فى العالم يقيمون فى أماكن يتحدثون فيها لغة مختلفة عن اللغة التى يكتبون بها، وبعد مرور سنوات يترسخ هذا الانفصال ثم رويدًا تبدأ اللغات الأخرى تتداخل فى نسيج النص الشعرى الذى يكتب ــ وهو بالعربية فى حالتى ــ بشكل غير واع. بالنسبة للأشكال الفنية التى يمكن أن تدخل فى التجربة نفسها فيما يخصنى هناك دراستى للمسرح وكتابتى لنصوص مسرحية تداخلت مع الكتابة الشعرية. وهى تجربة لها علاقة بتاريخ المسرح فى الغرب تحديدا إذ أن المسرح هو أصل الشعر، الإلياذة والأوديسة شعر ولم يكن هناك شعر مختلف عن الشعر الملحمى. 


من النادر أن يعيش الشعراء من كتابة الشعر. الكثير منهم عليهم العمل، وقد يكون العمل مختلفًا أو قريبًا من طبيعة الشعر، عادة أغلب الشعراء يعملون فى التدريس وهو المجال الأكثر قربًا، أنا مثلا عملت فى الإخراج السينمائى وقد حاولت دمج الشعر مع السينما باعتبار الأخيرة قصيدة بصرية، وفى آخر فيلم طويل أنجزته «محمد ينجو من الماء» لم أحاول فقط أن أوثق لحياة أخى أو أن أمد جسرًا بين حياته وأحداث الثورة وأن أتكلم عن واقع المرض فى مصر.

 

ولكننى حاولت أيضا أن أدمج الشعر فى نسيج العمل السينمائى وقد تم هذا فى أكثر من موضع فى الفيلم كان فيه اللجوء للشعر باعتباره مساحة أخرى موازية.. مساحة عزاء وتأمل، تأخذ فيه القصائد الفيلم إلى مدارات مغايرة غير سردية ثم نعود من خلال الفيلم إلى الواقع السردى مرة أخرى، بالإضافة إلى أننى حاولت عمل قصائد شعرية مرئية فيما يعرف بالفيلم الشعرى وبعض هذه المحاولات متاحة على موقع تماس Tamaas وموقع المشروع الشعرى The Poetry Project حيث تصحب القصائد المسموعة المكتوبة أحيانا لغة بصرية هى بمثابة ترجمة لمعانيها ولنسيجها البصرى.

انشغالى بالفلسفة هو أيضا أحد منابع القصيدة وأحد منابع الصورة، وكل هذه الأنشطة الفنية تعود فى رأيى إلى منشأ واحد وقد لا يكون هناك تعارض بينها، وكثير من الشعراء فنانون تشكيليون مثل إيتيل عدنان فهى تشكيلية ممتازة وأعرف أيضا كثير من الشعراء الإنجليز الذين يمارسون الرسم والفنون التشكيلية. فلنقل إن الأصل فى ممارسة الفنون هو التعدد وليس التخصص. 


هل تؤمن صفاء فتحى أن كل فكرة تختار القالب الفنى المناسب لها؟
بالضبط هى الفكرة واللحظة والحالة والتوقيت معًا، مجموعة من العوامل المشتركة تؤدى فى النهاية إلى تحول الفكر إلى نوع ما من الكتابة أو الأعمال الفنية بشرط امتلاك الخبرات التقنية اللازمة لذلك. وبعبارة أخرى وكما يقول هيجل فإن شكل العمل الفنى هو بمثابة تعبير وافٍ عن محتواه.


هل كان فيلمك عن دريدا «دريدا من جهة أخرى» جوابا لمن يقولون نحن لا نفهم دريدا؟ إلام سعيت من خلال تقديمك لهذا الفيلم؟
حاولت تقديمه كما أفهمه أنا، وفقا لما وصلنى منه. ما وصلنى منه كان مجموعة من التيمات ربطتها بسيرته الذاتية وبالأماكن التى عاش فيها. موضوع المكان هو موضوع أساسى بالنسبة لدريدا.

ومن هنا جاء العنوان بالفرنسية «D’Ailleurs, Derrida» ومفردة D’Ailleurs هنا معناها من جهة أخرى أو بالمرة أو علاوة على ذلك، ينحصر العنوان عند ترجمته إلى العربية فى معنى واحد هو الجهة المكانية وتغيب بقية المعانى التى ينطوى فيها على الحال.

ومثلما يقول دريدا فى بداية الفيلم فلا توجد جهة أخرى إلا فى القلب، لا توجد جهة أخرى إلا باعتبارها لا توجد إلا فى داخل الإنسان الذى يحمل الجهة الأخرى بداخله، الجهة هى مكان يحمله السائر المشاء بداخله لأن أى جهة ليست بجهة أخرى إلا عندما تكون بداخل السائر المتسكع الهائم. يتحدث دريدا عن ذلك فى كتابه «اللغة الوحيدة هى لغة الآخر» حيث يقول إنه يعشق لغة واحدة هى التى يكتب بها وهذه اللغة ليست بلغته بل إنها لغة الآخر. أى أن لغته الوحيدة هى تحديدا ليست لغته بل لغة الآخر.

ولد دريدا فى الجزائر كما هو معرف تعلم وعاش باللغة الفرنسية وكان كأنه يجب على الأقل أن يعيش بلغة أخرى، أو أن يعرف لغة أخرى وهذا القلق اللغوى هو ما دفعه للقول إن سيرته الذاتية لم تكن مريحة أو مرضية. شعرت وأحسست أيضاً بهذه المفارقة حين كتبت بالفرنسية. 
لماذا اخترت الفرنسية لكتابة مسرحية «إرهاب» على سبيل المثال؟


علاقتى بالفرنسية علاقة غريبة. لم أكن أتقنها عندما سافرت لكننى كنت قد التحقت بمدارس راهبات فرنسية وأنا صغيرة، أحكى هذا لإدراكى تأثير ذلك على عندما شرعت فى الكتابة بالفرنسية، لم يكن هذا لفترات طويلة فقد دخلت حضانة لمدة سنة فى أسيوط وبعدها التحقت بالمرحلة الابتدائية فى بنى سويف لعدة سنوات، كنا ندرس الفرنسية بجانب مواد أخرى ولم تكن الدراسة بالفرنسية.

أى أنها لم تكن مدرسة لغات كما هو الحال حالياً. لم يساعدنى هذا على إتقانها لكن علاقتى بالراهبات الفرنسيات أثرت فى كثيرا وخلقت مساحة فى مخيلتى بإمكانها استضافة الفرنسية. عند سفرى إلى فرنسا كان لدى معرفة كافية بقواعد اللغة لكن محصولى من الكلمات كان فقيرًا. وبالتالى لم أكن أجيد اللغة الفرنسية، لكننى بالمواكبة مع دراسة الدكتوراه فى الأدب الإنجليزى فى السوربون تقدمت للحصول على ليسانس المسرح من جامعة أخرى، وكان ذلك بصحبة ممثلين ومخرجين فتعلمت فن العرائس وقدمنا مسرحيات اضطررت فيها لحفظ عدد من النصوص الفرنسية عن ظهر قلب وكنت صغيرة فى السن وقتها، حفظى للنصوص عن ظهر قلب وحداثة سنى جعلا الفرنسية تشغل فى دماغى جزءا مقاربًا للجزء الذى تحتله اللغة الأم القديمة.

هذا ما حدث ولا أدرى لماذا عندما بدأت أكتب «إرهاب» كتبتها بالفرنسية وبفرنسية إلى حد ما قديمة وليست حديثة.

عندما عرضت المسرحية سألنى أحدهم: «لماذا وكيف كتبتها بلغة الثورة الفرنسية؟» لا أدرى بالضبط! ما حدث أننى كنت أقرأ فى ذلك الوقت الكثير من الوثائق عن فترة الإرهاب التى أعقبت الثورة الفرنسية وعندما بدأت الكتابة كتبت بلغة قريبة من لغة ذلك الزمن. لم أقرر الكتابة بالفرنسية وإنما حدث الأمر هكذا، إن مضمون العمل الفنى يفرض الشكل وكذلك اللغة التى يتخذها، بالذات فى حالة كاتبة مثلى تعيش على الحدود.. حدود اللغات، وحدود الأماكن، وحدود الحالات والأشكال، وعلى حدود الماوراء بين هنا وهناك.


لبعض التيمات كالألم والموت حضور كبير فى إبداعك. فهل كنت تسعين عبر أعمالك لاستكناه معانيهما وإعطاء معانٍ جديدة لفكرة الألم ومفهوم الموت؟


أعتقد أن مفهوم الألم وحدث الموت يختلفان من إنسان لآخر، كل إنسان بل كل كائن حى يعيش على الأرض لديه ترجمة دقيقة تخصه كبصمات الأصابع لمواضيع الألم والفقد والموت، وأنا كغيرى الحياة علمتنى أن أتعامل مع الألم وفرضت علىَّ أن أتعامل مع فكرة الموت، ليس مع فكرة الموت وإنما مع واقع الموت مع سؤال الموت.

فى أعمالى تناولت تساؤلى هذا عن الموت بجانب التداعيات الميتافيزيقية المنفتحة لعلاقتى بهذا التساؤل. الاستجابة الأدبية لهذا التساؤل تقع فى نطاق التأمِّل الحالم الماورائى الذى يرتقى بالألم إلى عوالم طوباوية فى الوقت الذى يعانيه ويحاول أن يتخطاه دائمًا إلى نوع من الخيال والبهجة والتواجد مع أصغر الأشياء وأقلها أهمية. مثلًا فى ديوان «ثورة وحائط نعبره» فكرة الألم هى المحرك الأساسى بينما فى الجزء الثانى من الديوان وعنوانه «لقطات» أتحدث عن طرائف الثورة ومصادر البهجة فيها. 


من تشعرين أنه أكثر قربًا لقناعاتك الفكرية: المثقف العربى أم الأوربى؟ ولمن تقرأين هناك وهنا؟
القراءة النظرية أغلبها لمفكرين من الغرب، طبعا قرأت قراءات نظرية لمفكرين عرب منهم جورج طرابيشى مثلا وغيره ولكن أغلب قراءاتى النظرية هى باللغة الفرنسية.


ما رأيك فى قصيدة النثر والجدل الذى يثار حول أصالتها من حين لآخر؟
قصيدة النثر هى القصيدة المعاصرة التى يكتبها الشعراء، وهى الواقع الذى ينبغى أن نتعامل معه. لن تتوافق روحى مع كتابة قصيدة عمودية أو قصيدة تفعيلة لو حاولت ذلك رغم وجود إيقاعات وقوافى يمكنها أن تصنع موسيقى خاصة غير مقصودة فى كتابتى، أذكر أن ترجمة صدرت لمجموعة من قصائدى بالفرنسية بعنوان «حيث لا نولد» قدم لها جان لوك نانسى ومعه أقمنا ندوة فى المركز القومى للكتاب، أحد الحضور أخذ يحصى الأوزان الخفية الفرنسية فى النصوص رغم أنها نصوص مترجمة إلى الفرنسية، تحمل اللغة إذن ذاكرة شكلية غير واعية كما يحمل الكاتب ذاكرة لغوية دون أن يدرى بحملها أو دون أن يدرك الأشكال الفنية التى يمكن أن تظهر من خلالها. فى قصيدة البئر والصورة، من ديوان اسم يسعى فى زجاجة، على سبيل المثال فإن النص الأساسى الذى يشكل خلفيتها هو الكتاب المقدس.

وعبارة «التى كانت ولم تكن الآن» الواردة فى القصيدة مأخوذة من سفر الرؤيا ليوحنا اللاهوتى، ولقد استخدمت اللاتينية لترجمة العبارة عند نقل النصوص إلى الفرنسية.

ما أعنيه هنا أنه حتى الأشكال القديمة كالشعر العمودى وشعر التفعيلة متضمنة فيما نكتبه الآن، لا يصدر إبداع دون خلفية ولا يحدث خلق من فراغ.

أنا لست الإنسانة الوحيدة التى أحبت أو فقدت أخاها، هى تجربة إنسانية عامة وهناك تجارب عديدة فى موروث الإبداع الإنسانى قادرة على جعلنا نرتبط بها ونقدم بدورنا تجربتنا الشخصية ورؤيتنا لتيمات أساسية كالحب والموت مثلما فعل السابقون علينا. وما نتبنى من أشكال للكتابة تحمل فى لاوعيها وتنطوى على ما سبقه. لذا أرى أن هذه الإشكالية إشكالية عقيمة. 


ما الفكرة الجوهرية التى قامت صفاء بتفكيكها ولم تكثرت لإعادة تركيبها لأنها فى رأيها تبدو وكأن مصيرها كان الهدم لا البناء؟
 التفكيك ليس شغلى الدائم، العكس هو الصحيح فالمرء يحيا فى تجارب طوال الوقت شكلها مترابط ومتماسك ومتناغم كوحدة واحدة، بالنسبة لسيرتنا الذاتية كمثال، فإنه يوجد لدينا رواية عن نفسنا لها شكل معين وقد جرى اعتمادها من قبلنا وأضفنا إليها نرجسيتنا، السيرة الذاتية هى روايتنا النرجسية بكل ما فيها من حلو ومر، لكن يحدث أحيانًا أن تقع هذه الرواية أثتاء الكتابة، فعندما نحاول أن نكتبها أو نكتب أجزاء منها ونتعامل معها بأمانة تأخذ فى التحول وتصير رواية للكتابة وليست الحكاية التى شرعنا فى حكيها، أى حكايتنا كما نعرفها وتعرفنا عليها، كما تدربنا على قصها على أنفسنا. الحقيقة منفتحة وتمر وتعبر بأنواع من التشكل منها ما هو خيالى ومنها ما هو واقعى.

أنا مقتنعة أن فكرة السيرة والرواية فى لحظة مساءلة الكتابة عن النفس تنتج نصًا لا يمكن تصنيفه كسيرة ذاتية أو كرواية، لأن الكاتب فى طور الكتابة أى فى لحظة خلق الحكاية من رواية الذاكرة قد يضطر بحكم بحثه عن الحقيقة لهدم فكرة السيرة أو الرواية وأن يخلق أو أن يكتشف حكاية جديدة من داخل الحكاية التى يحكيها.

وأنا أعمل منذ خمس سنوات على كتاب من هذا النوع، كتاب نثرى وليس شعرا، يمكن تسميته رواية وهو رواية غير الرواية أو رواية مغايرة للرواية. رواية بالمعنى التاريخى لمفهوم الرواية، الخبر الذى يقع بين الواقع والشعور المتخيل. 


هل هناك فلسفة عربية آخذة فى التطور أم أنه يوجد فقط تقليد للفلسفات الغربية؟
لا توجد لدى فكرة حول الفلسفات العربية، قد تكون موجودة ولكننى لا أعرف عنها شيئًا. أعتقد أنه يوجد استلهام للفلسفات الغربية فى العوالم غير الغربية. هذا مع أن الفلسفة الغربية أيضًا تمر الآن بأزمة؛ المدارس الكبرى التى ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية بدأت تنحصر، وقل عدد الفلاسفة الكبار وبوفاة جان لوك نانسى لم يعد هناك إلا عدد قليل جدا من الأسماء.

إلا أننا لا نعيش فى لحظة تعتمل فيها الأفكار الكبرى، نحن نحيا فى لحظة استيعاب للأفكار السابقة ومحاولة قراءتها وتمثلها ولسنا فى حالة ابتكار أو إبداع لأفكار جديدة، يمكن أن يكون ذلك لأن ما تشهده الإنسانية الآن بحاجة إلى وقت لاستيعابه، فكرة انتفاء المكان مثلا حيث يتواصل البشر مع بعضهم البعض من أماكن مختلفة عبر شبكة الإنترنت بالتأكيد هذا الأمر يحتاج إلى وقت لاستيعابه.


أو ربما على الأرجح لأننا بحاجة لنوع جديد تعددى للتفكير لا يمثله شخص واحد بل العديد من الأشخاص منهم الأحياء ومنهم الأموات. ربما نكون فى لحظة التعددية هذه التى لن يكون لها أن تتمحور حول اسم واحد. 


اقرأ ايضا | ولدت صفاء فتحى فى المنيا، فى صعيد مصر فى 17 يوليو 1958. درست الأدب الإنجليزى فى مصر وشاركت فى الحركات الطلابية