هل كانت القصيدة تمثل نزعة للشك في الإنسانية؟

عندما ترجم «العقاد» للشيطان وانتصر له!

عباس العقاد
عباس العقاد

لفحاتٌ من نار هاجت بها قريحة العقاد البركانية، فخرجت كتلة لهب من شاعر نيراني يأنف السدود والقيود ويصارع الدنيا لأجل حرية فكرية وعقلية لا متناهية، وإن لم يكن يملك في الحقيقة غير قلم!

أي أديب ذلك الذي لا يبحث عن الحرية ولا ينفق من أجلها كل نفائسه، وكيف يدَّعي أنه يقدم إلى الناس متعة أدبية فنية وهو لا يؤمن بأبسط حقوق المبدع؟! فالأديب، ولا شك، مختلف عن الآخرين، وكأنه طينة بشرية شابتها نفحات إلهية، ولعل الشعراء أكثر التصاقا بهذا الصفاء النوراني من غيرهم، يقول العقاد في قصيدة (الشعر):

والشعر من نَفَس الرحمن مقتبس

والشاعر الفذ بين الناس رحمان

والشعر ألسنةٌ تُفضي الحياة بها

إلى الحياة، بما يطويه كتمان

وهذا تعريف جامع مانع لمعنى الشعر في ميزان العقاد؛ ذلك المعنى الذي ما انفك يردده في كتبه الكثيرة ويلح عليه عساه يزيد وعي الشعراء فيهتموا بقدح زناد أفكارهم الشاعرة، والقراء فيغوصوا أكثر بحثا عن جواهر الأفكار الكامنة خلف كل بيت شعري؛ وربما لذلك نعى كثيرًا على شوقي أشعاره الباهتة في المناسبات التي لا تعبر عن شعور صادق ونفس ملتاعة بما تقول: "فاعلم، أيها الشاعر العظيم، أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها. وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزيته أن يقول ما هو ويكشف لك لبابه وصلة الحياة به".   

 

إن الشعر عند العقاد "دين" لا تخاصمه الأديان في حقيقتها الناصعة؛ "دين" لا يتصارع أتباعه ويتقاتلون لإثبات آرائهم هم فيه؛ إنه لسان الكون والناطق المبين عن دقائقه ودخائله الكثيرة، ولولا الشعر لظلت الحياة خرساء لا تنطق عن مواقع الجمال فيها؛ إذ هو وحده القادر على تغيير الجهامة والعبوس إلى ضحك وسرور؛ إنه من (نفس) الرحمن، وإن الشاعر الحق هو الذي ينشر هذه الرحمة بين الخلائق.. ولا تخفى مشاكهة هذه الأبيات لنونية ابن الرومي الشهيرة في مدح إسماعيل بن بلبل، والتي بلغت اثنين وثلاثين ومئتي بيت- وكان العقاد والمازني وشكري مفتونين بها وعارضها كل واحد منهم بقصيدة- وتأثيرها ظاهر في هذه القافية وكذلك في البحر الشعري الذي كُتبت فيه، والتي تبدأ:

أجنت لك الوجد أغصان وكثبان

فيهن نوعان: تفاح ورمان

ومن يقرأ تاريخ العقاد الفكري والسياسي يدرك إلى أي الآماد نافح هذا الرجل عن الحرية، وأي الأثمان دفع، لذلك فإن قصيدته "ترجمة شيطان" تدل عليه وتشير إليه حتى لو لم يدون عليها اسمه، فهي ترتبط به ارتباط الموضوع بالمحمول كما يقول المناطقة؛ فهذه الخصوصية الشعرية الفريدة المبثوثة في شعر العقاد لم تغب عن الدكتور طه حسين، فقال عن شعره بعامة وعن هذه القصيدة بخاصة في حفل تكريمي أقيم للعقاد عام 1934: "إنني أجد عند العقاد ما لا أجده عند غيره من الشعراء، وإن شئت فإني لا أجد عند العقاد ما أجده عند غيره من الشعراء، لأني حين أسمع شعر العقاد، أو حين أخلو إلى شعر العقاد فإنما أسمع نفسي أو أخلو إلى نفسي، إنما أرى صورة قلبي وصورة قلب الجيل الذي نعيش فيه.... إنني لا أقول لنفسي: قد قرأت هذا الكلام من قبل، أو أين قرأت هذا؟ أفي شعر البحتري أم عند أبي تمام، أم سبق أبو نواس إلى مثل هذا الكلام؟ كلا؛ إنما تقرأون العقاد فتقرأونه وحده، لأن العقاد ليس مقلدًا، ولا يستطيع أن يُقلد، ولو حاول التقليد لفسدت شخصيته".. ولا أحسب أن الدكتور العميد قد صدق في كل كلامه ودراساته عن الأدب العربي مثلما صدق في هذه المقولة عن شاعرٍ مُجايل له، وكان من أدرى النقاد به وبطبيعة الفن الذي يُقدمه إلى الناس.

- الشيطان في الشعر القديم:

عرف العرب الشيطان وعزوا إليه خوارق أفعالهم، وعلى رأسها قول الشعر، فكان كل شاعر منهم ينسب ما يقول من الشعر إلى شيطانه القوي القدير الذي أتاه من وادي عبقر ووهبه تلك القصائد المتينة التي يعجز عن الإتيان بمثلها باقي الشعراء؛ فـ: (هبيد) اسم شيطان (عبيد)، و(مسحل) اسم شيطان (الأعشى)، و(جهنام) اسم شيطان (عمرو بن قطن)، و(سنقناق) اسم شيطان (بشار).. وزعم الفرزدق أن الشعر منقسم بين شيطانين: أحدهما يُسمى (الهوجل)، وهو موكل بالجيد من الشعر؛ والآخر يُسمى (الهوبر)، وهو موكل برديئه.. وللفرزدق نفسه قصة طويلة مع إبليس إذ هجاه في قصيدته التي قالها حين دخل المربد فلقي رجلا من موالي باهلة يُقال له حمام، ومعه نحيّ من سمن يبيعه، فسامه الفرزدق به، فقال له حمام: أدفعه إليك، وتهب لي أعراض قومي؟ ففعل.. ويقول في القصيدة:

أطعتك يا إبليس سبعين حجة

فلما انتهى شيبي، وتم تمامي

فررت إلى ربي، وأيقنت أنني

ملاق لأيام المنون حمامي

هذه المحاورة الفريدة في الشعر القديم بين الفرزدق والشيطان، والتي وصلت إلى حد هجاء الشاعر لقرينه الملازم، وإعلانه التبرؤ منه ومن أفعاله، وعدم انقياده له بعد سبعين حجة من طاعته، تقول لنا كيف كان يقتنع الشعراء بوجود الشيطان الملهم في حياتهم.

وكذلك كانوا يقولون عن توارد الخواطر بين شاعريْن: إنهما يأخذان من شيطان واحد؛ وقصة الفرزدق وجرير في هذا ذائعة، وذلك أنهما ركبا ناقة إلى الرصافة لاستمناح هشام بن عبد الملك، فنزل جرير في بعض الطريق، فتلفتت نحوه الناقة، فأنشد الفرزدق:

علام تلفتين وأنت تحتي

وخير الناس كلهم أمامي

متى تردي الرصافة تستريحي

من الإدلاج والدبر الدوامي

ثم قال في نفسه: الآن يجيء ابن المراغة فيسمع ما أنشدته، فيجيبني بقوله:

تلفت أنها تحت ابن قين

أبي الكيرين والفاس الكهام

متى ترد الرصافة تخز فيها

كخزيك في المواسم كل عام

ثم جاء جرير فأخبره الفرزدق بالقصة وأنشده البيتين الأولين، فلم يلبث أن رد جرير بالبيتين الأخيرين، فضحك الفرزدق وقال: والله يا أبا حرزة لقد قلتهما قبل أن تأتي. قال جرير: أما علمت أن شيطاننا واحد؟!

وجرير نفسه هو الذي يفخر بشيطانه في موضع آخر، ويقول:

رأيتُ رقى الشيطان لا تستفزه

وقد كان شيطاني من الجن راقيا

وكأن هذين الشاعرين الكبيرين يعترفان بأن شعرهما هذا- وأكثره مليء بالسباب فيما بينهما- ما هو إلا من وحي الشيطان الذي يتسلط على نفسيْهما.. ورأينا كيف جفا الفرزدق شيطانه في أواخر عمره وهجاه بكلمات قبيحة، لا ندري أأوحاها إليه طبعه الشتام، أم تكون حيلة ملتوية من حيل الشيطان ليُملي له بقول القبيح وفاحش القول ولو كان موجهًا إلى شخصه القميء.. ونحن نجد أيضًا عند شعراء العربية مَن يتيه على الشعراء بشيطانه، فيقول الشاعر أبوالنجم الرجاز:

إني وكل شاعر من البشر

شيطانه أنثى، وشيطاني ذكر!

هذه كلها شواهد تدلل على أن شعراء العرب كانوا على درايةٍ بالشيطان كأداة شريرة تدفع وساوسها إلى الأفعال القبيحة، ولكنها فكرة سطحية لم تستغل في الأدب كثيرًا، مقارنة بالآداب الأوربية، احترازًا من الفكرة الدينية التي قالت كل شىء عن هذا المخلوق المفطور على عداوة بني آدم والتغرير بهم.

- لماذا ترجم العقاد للشيطان؟

لم يكن العقاد- أيضًا- أول من ترجم للرجيم في العصر الحديث، فكثير غيره من الأدباء فعلوا ذلك، خاصة الأدباء الأوربيين، ومنهم الشاعر الفرنسى بودلير في أعماله الكاملة (أزهار الشر)، وما نشر معها من نصوص حول المحاكمة التي تعرض لها هذا الشاعر هو وديوانه في أواسط القرن التاسع عشر، واتهم فيها بالإساءة إلى المشاعر الدينية في عدد من قصائد الديوان، من بينها (إنكار القديس بطرس) و(صلوات الشيطان) و(لسبوس) و(النساء الملعونات)، وغيرها.. ولدينا قصة (فاوست) لجوتة، شاعر الألمان الأكبر، التي يقول عنها د. طه حسين: "تجد في هذه القصة صورة صادقة دقيقة لحياة العالم الأوربي قبيل الثورة الفرنسية وإبانها، أي في عصر الانتقال الذي وثب بأوربا الوثبة الأخيرة من حياة القرون الوسطى إلى حياة العصر الحديث. ويُقال إن فاوست الثاني يصور المثل الأعلى الذي يسمو إليه الرجل الفيلسوف، وكيف يسمو إليه وكيف يظفر به. وقد تعمدت أن آتي بلفظ الشك هذا لأن الذين فهموا فاوست الثاني قليلون. وقد أسأل نفسي أحيانا: هل فهمه جوته؟".

فهل كانت هناك حاجة نفسية شديدة لاستحضار إبليس في هذا التوقيت بالذات، حيث ظهرت معظم هذه الأعمال، وخاصة فاوست الذي كان مثالا للوساوس التي ناوشت العلماء والأدباء في أوربا إبان الثورة الفرنسية، وفاوست هذا هو الذي أراد إبليس أن يضمه إلى جيشه:

فاوست: وأنا أتحداك!

إبليس: وقع هذي الورقة!

 [جانبا] ما أكثر من قالوا ذلك ثم هووا!

لكني اليوم أضم إلى جيشي سند العلماء

ولسوف تجلجل ضحكاتي في كل سماء

وتعربد في كل الأرجاء

حتى يسمعها رب الكون!

وقد نربط بين الشياطين الأوربية الكثيرة وشيطان العقاد، حيث إنها قد جاءت بهدف وحيد هو الثورة على الظلم والدفاع عن الحرية، لأن الشيطان الذي كان في العصور الماضية مجرد رمز ديني للشر، وقد تحول في عصر العقاد إلى رمز للتمرد والتحدي، وإذا كان الشيطان في الماضي قد أصابه الغرور فظن نفسه ندا لله عز وجل وخرج عن طاعته فطرد من السماء، فإنه قد أصبح يرمز للثورة والعناد ومواجهة النظم المستبدة والجمود الفكري؛ وكل هذا يحوطه القلق الوجودي الذي دفع العقاد إلى صياغة قصيدته المطولة التي لا نظير لها في شعرنا العربي الحديث كله، وهي قصيدة "ترجمة شيطان"، وهي محاولة فريدة في تاريخ الشعر الحديث فتحت فضاءات جديدة للشعر العربي.

فإلى أي مدى استطاع الأستاذ العقاد فهم طبيعة الشيطان، وهل كان حقا مثالا للتمرد، وقول (لا) زاعقة صاخبة في وجه أوامر إلاهية عليا، وهل يستحق أن يكون بطلا

على عصيانه وتمرده، إن فهمنا الأمر فهما مباشرا دون رمز، أم أن العقاد يذهب إلى أبعد من هذا الفهم المباشر الساذج للأمور، وهو إنما يعري الشيطان أمامنا لنفهم ألاعيبه وحيله؛ فهو يبدأ كتابه عن إبليس وهو لاحق لقصيدته بعبارة مثل هذه: "يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير... فقد كانت معرفة الشيطان فاتحة للتمييز بين الخير والشر، ولم يكن بين الخير والشر من تمييز قبل أن يعرف الشيطان بصفاته وأعماله وضروب قدرته وخفايا مقاصده ونياته".

وإننا نوافقه في هذا بقوة، لأن الإرادة لم تمنح للإنسان ليلهو بها، وإنما لتكون أداته للتمييز بين الخير والشر والجميل والقبيح، وهو ما يتميز به عن سائر المخلوقات الأخرى، ولا يكون كما روى الإمام ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس): "قال بعض السلف: رأيت الشيطان فقال لي: قد كنت ألقى الناس فأعلمهم فصرت ألقاهم فأتعلم منهم".

موضوع جريء

أما عن الشيطان، فمن يملك التعبير عنه، بل من يملك الجرأة على تناول موضوعه أقدر من العقاد.. وصحيح أنه ليس الأول ولا الأخير الذي تناول الشيطان في شعره، فكثير غيره، عربا وأجانب، قد شغلهم موضوع الشيطان وحيله فصاغوه شعرا، كما قلنا؛ ولأن العقاد نسيج وحده شعرا فإن شيطانه كان أيضا نسيج وحده بين الشياطين والملائكة على السواء.. يقول إبراهيم عبد القادر المازني عن هذه القصيدة: "لأول مرة في تاريخ الأدب العصري- والعربي أيضا- يرى القارئ عملا فنيا تاما قائما على فكرة معينة تدور على محورها القصيدة وتجول. ولعل هذا من أظهر مميزات الأدب الحديث وأكبرها. فقد كان الرجل يقول القصيدة مسوقا إلى قرضها بباعث مستقل عن النفس؛ ولكنك هنا ترى بناء مشيدا نبتت فكرته لسبب مفهوم وعلة طبيعية مشروحة، وأعمل الشاعر ذهنه في جملتها وتفاصيلها ثم أفرغها في قالب تخيره لها بعد الروية، وعرضها في أسلوب فني موسيقي أبدعه لها".

قصيدة (ترجمة شيطان) ليست كباقي شعر العقاد، إنها واسطة العقد، ودرة القلائد، ليس لطولها الشديد، ولا لموضوعها الجديد، إذ إن له قصيدة أخرى سماها (سباق الشياطين)، وقصيدة ثالثة بعنوان: (إبليس ينتحر)؛ غير قصائد أخرى تدور موضوعاتها حول الجحيم والنار والإغواء وأشباه هذه الموضوعات العقادية.. نقول إن (ترجمة شيطان) فريدة عقادية، ليس- فقط- لأنه كتبها في مرحلة متقدمة جدا من حياته، فلم يكن جاوز الثلاثين، ولا لطبيعة العرض والتجربة التي أطلعت الساحة الأدبية، وقتها، على مكنة هذا الشاعر المختلف عن باقي عباد الله الشعراء.. بل لأن القصيدة تخرج من أصل الجحيم، وكأنها نبتت هناك مع شيطان العقاد الرجيم.. لفحات من نار هاجت بها قريحة العقاد البركانية، فخرجت كتلة لهب من شاعر نيراني يأنف السدود والقيود ويصارع الدنيا لأجل حرية فكرية وعقلية لا متناهية، وإن لم يكن يملك في الحقيقة غير قلم!

وقد نظم العقاد هذه القصيدة، كما قال في مقدمتها: "في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهي تدور على سيرة شيطان كفر بالشر بعد أن فتن الخلق بصورة الحق. وإن شيطانا يكفر بالشر لأشقى من ملك يكفر بالخير؛ لأن الملك بعد الكفران بالخير قد يجرب الشر فيرى للحياة معنى في هذه التجربة، ولكن الشيطان الذي يزيف الحق بيديه، ثم يكفر بالشر يخبط في حياة ليس لها معنى على الحالين، ويمضي غير حافل بالخلق محقين أو مبطلين، وغير مكترث لهم ولا لنفسه في هداية ولا ضلالة".

وقصيدة ترجمة شيطان هي قصة شيطان ناشئ سئم حياة الشياطين وتاب عن صناعة الإغواء لهوان الناس عليه وتشابه الصالحين والطالحين منهم عنده، فقبل الله منه هذه التوبة وأدخله الجنة وحفه فيها بالحور العين والملائكة المقربين، غير أنه ما عتم أن سئم عيشة النعيم ومل العبادة والتسبيح وتطلع إلى مقام الإلهية لأنه لا يستطيع أن يرى الكمال الإلهي ولا يطلبه، ثم لا يستطيع أن يطلبه ويصبر على الحرمان منه، فجهر بالعصيان في الجنة ومسخه الله حجرا فهو ما يبرح يفتن العقول بجمال التماثيل وآيات الفنون، واستضحك إبليس بين جنده يوم انتهى المطاف بتلميذه إلى هذه الخاتمة، فقال:

ما أرى هذا الفتى من دمنا

ومتى استغوى الشياطين الشرك

أترى شيطانة من قومنا

أغوت الأملاك، فهو ابن ملك

إن شيطان العقاد نمرود متمرد لا يعجبه شيء ولا يرضيه شيء؛ إنه يأنف الخلود الذي وعد به الله المؤمنين، كما أنف من إخوانه الشياطين وشرورهم، والملائكة وتسبيحهم.. إن هذا الخاسر يأبى إلا مصاولة الذات العلية، فهو يغار من ملك الله ويعد كل خير وملك دون هذا الملك الأكبر الذي يطمح إليه هواء لا يليق بذاته الشيطانية الجامحة المتكبرة.. إنه يجادل ويناور بالباطل وكأنه مخلوق ليقول (لا) زاعقة صاخبة لا تحدها حدود ولا تربطها قيود، وهو مع هذا لا يجهل موضعه ولا قدره المخلوق المحدود، فما كان لمثله أن يخدع نفسه، غير أن كبره وأنفته وانتفاج ذاته أودت به إلى أن سخطه الله حجرا، لا انتقاما- جل الله عن ذلك- ولكن رحمة بالمخلوقات لكي لا يشطط بها هذا المتمرد عن رضوان الله.

ولكن العقاد يأبى أن يسمح لشيطانه بالاستسلام أمام الإرادة العليا، فهو وإن تحول إلى جلمود صخر فإن قدرته على الإغواء لا تزال فاعلة، فهو يغوي الناس باسم الفن إذ ينحت الفنانون من الجبال والأحجار آيات تأخذ بألباب الناس وتنسيهم الآيات الإلهية العليا؛ كما أن هذا الجلمد الساكن الذي لا يريم قد استطاع بطريقة ما أن يضل الناس بحيث يتخذون هذا الحجر إلها من دون الله!.

 ماذا يريد العقاد أن يصرح لنا هنا؟ أتراه يقول إن هذا الملك والجبروت الإلهي الذي وسع أركان كل شيء قد انهزم أمام شيطان صغير متمرد صاغه الله في أصل الجحيم؟ حاشاه أن يتجرأ على الذات الإلهية، أو أن يقصد هذا المعنى المباشر العقيم؟ فالعقاد/ الشيطان، يأبى الانكسار والمداهنة أمام حريته وإن واجه أعتى القوى في الأرض، وصحيح أنها قد تملك أن تخسف به الأرض أو تأتيه بالعذاب من كل سبيل، ولكنها مع كل هذا لا تملك أن توقف ملكاته الإبداعية ولا أن تسد عليه منافذ الحرية التي لا يتنفس الأديب بدونها.

ومن يقرأ النص هذه القراءة المركزة، ويصبر على هذه المشقة الممتعة، فسيجد تلك المفاتيح التي يتوكأ بها إليه ويتعرف منها عليه، هذا إن لم يعابثه شيطانه الرجيم ويلقي في أمنيته ويفسد عليه طلبته، فشيطان المتلقي لنص العقاد لا يقل مناكدة ومخاتلة عن شيطان العقاد الذي وسوس إليه بكتابة النص، ولا عن هذا الشيطان المتمرد الذي صنعه العقاد على عينه وجعل منه بطلا خالدا حتى في أحلك فترات انهزامه واندحاره!

ورغم هذا فإن شيطان التمرد العقادي يعلو على كل شياطين الأدباء الآخرين، سواء منهم الشعراء الأقدمون، أو الروائيون المحدثون، فإن شيطانه ألعبان بهلوان، تأخذه العزة بالشيطنة إلى الغرور الفاتن والفتنة المغرورة، ومع هذا فهو يغلب باقي أنداده ويبزهم في فهلوته الرجيمية، ويختلف عنهم في مناح شتى، تدل كلها على براعة العقاد في رسم هذه الصورة الشيطانية المبتكرة في هذه السن المتقدمة، فوسيلته في الغواية هي الحق؛ لأن شيطان العقاد قد كفر بالشر عندما أيقن أن الشر والخير وجهان لهذه الحياة.

وإذا كانت الدراسة البنيوية لأي نص أدبي تعنى قبل أي شيء بتوافر البنية العضوية الشاملة للعمل، أو كما يؤكد ليفي شتراوس: "إن البنية ذات طابع عضوي، لأن علاقة العناصر المكونة لها تقتضي أن يكون تغيير أي عنصر مفضيا بذاته إلى تغيير بقية العناصر"؛ فإن الوحدات المفاتيح، في رأيي، المبثوثة في تضاعيف قصيدة (ترجمة شيطان) هي الأبيات التي يتحول فيها العقاد بالخطاب إلى القراء.. وطالما تساءلت وأنا أقرأ القصيدة عن السر وراء تدخل العقاد المتكرر: مخاطبا الله تارة، ومخاطبا الشيطان تارة أخرى، وداعيا للقارئ بالنعيم تارة ثالثة.. تساءلت: هل كان العقاد يخشى على حضرات القراء من لؤم شيطانه المكين القادر على التلبث بشخص الشاعر فيخلطوا بينهما، وهو مجرد صوت الحاكي؛ أم تراه يبحث منذ البدء عن إنشاء نوع من الألفة والمودة بين القارئ والشيطان، فأراد الاعتذار عن تلك الألفة الشيطانية مقدما.. لست أدري، غير أن النص يتوهج بلهيب نيراني شيطاني كلما عاودت قراءته، وإني لأتمتم حين تلاوته بـ: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وإن كان شيطان العقاد أقرب المرجومين إلى نفسي الأمارة بمحبة الشعر!

أطول قصائد العقاد

(ترجمة شيطان)، هي أطول قصائد العقاد على الإطلاق، وتتكون من عشرين ومئتي بيت، وهي- إذن- قصيدة ملحمية نادرة في الشعر العربي، إضافة إلى موضوعها الفريد في بابه؛ وتجري القصيدة على بحر شعري واحد هو (بحر الرمل التام)- وهذا شاهد على مقدرة العقاد الشعرية- وقد كان الأيسر له تغيير البحر، مثلما فعل في القافية؛ غير أنها طبيعة العقاد المتحدية.. أما القافية فتتغير كل بيتين اثنين، حيث يكونان وحدة بنائية واحدة، وقد جاءت مرتين فقط على أربعة أبيات، ومرتين على ستة أبيات.. وتبدأ القصيدة ببيتين افتتاحيين:

صاغه الرحمن ذو الفضل العميم

غسق الظلماء في قاع سقر

ورمى الأرض به رمي الرجيم

عبرة، فاسمع أعاجيب العبر

إن هذه العتبة (المدخل) تأخذ طابع الحكاية الشعبية التي يقصها الحكاؤون في الموالد وسهرات الأفراح؛ مع اختلاف الموضوع و(البطل) بالطبع، فهو هناك أبو زيد الهلالي والشاطر حسن وعنترة والزير سالم؛ وهنا البطل مصوغ في (قاع سقر) حيث (غسق الظلماء).. إن هذه الكلمات وحدها كفيلة ببث الرهبة وجذب انتباه القراء (أو المستمعين).. إنها كلمات تنسي كلمات أخرى تجاورها، وهي: (الرحمن- ذو الفضل العميم)، لأنها تفتح الباب واسعا للخيال المتسائل عن هذا المخلوق الذي كان عقابه الهبوط إلى الأرض (عبرة).. ثم يطالب (الشاعر/ الحكاء) (قراءه/ مستمعيه) بالإنصات إلى هذه الحكاية الأعجوبة:

خلقة، شاء لها الله الكنود

وأبى منها وفاء الشاكر

قدر السوء لها قبل الوجود

وتعالى من عليم قادر

لا يزال الشاعر وئيدا متمهلا في كشف ستائره الشفافة للقراء؛ إنه يبدأ في إجابة: كيف، ولماذا؟ ولم يذكر بعد اسم هذا الكائن أو الشيء سوى أنه (خلقة)، هكذا بالتنكير، ليفتح الباب أكثر أمام الخيال، ويخيف أولئك الأبرياء الذين ستكون هذه الخلقة (محنة) لهم.. ولكننا نلمس- رغم البدايات- ذلك الاعتذار الخفي لهذه الخلقة؛ إن ما تفعله (قدر) مكتوب منذ الأزل؛ وهي إن أطاعت (فاجرة)، وإن رفضت وخالفت القضاء لاستحقت اللعنات في الآخرة!

إن الحيرة في الإنسانية والشك في أسباب وجودها إبان الحرب العالمية الأولى قد ضربا بجذورهما في أعماق عقول المفكرين فالتاثت وتذبذبت وراجعت كثيرا من معتقداتها وأفكارها؛ إن العقاد يناصر- لا شك- ذلك الشيطان المتمرد ويتعاطف معه، إنه يدعم حريته المنفلتة ويأسى لأرسانه (القدرية)؛ إن هذا الشيطان ليس أسوأ من البشر فلماذا يستحق- وحده- كل هذا الجحيم الأبدي، وكل هذه القبائح على مر التاريخ.. إن ما فعله البشر ببعضهم البعض في هذه الحرب العالمية من جرائم لا يستطيع أعتى الشياطين والأبالسة مجرد التفكير فيها.. إن الشيطان لا يملك غير الوسوسة بالشر، إنه لا يملك غير الحيلة، والحيلة يلجأ إليها الضعيف الهزيل؛ إنما الأفعال من نصيبنا نحن.. ولذلك سنلحظ خطا موازيا في اطراد شعري بالأسف المرير والاعتذار عن هذا الشيطان الذي ليس كالشياطين، أو الملاك الذي ليس كالملائكة.. إنه خليط تبرأ منه الجميع، لأنه واضح وصريح في الإبانة عن مرادات نفسه ورغبات طمعه؛ صحيح أن كبرياءه طاغية قاهرة تتجاوز أفقه إلى آفاق لا يستحقها؛ ولكن مصاولته في ذاتها ثورة؛ ثورة على أوضاع بائسة محبطة؛ ثورة على خنوع كوني لجبروت القوة المهلكة.. إن هذه الكبرياء مشابهة في كثير من أشكالها لكبرياء العقاد نفسه، ومنافحته عن حريته وكرامته، ومواجهته لجبروت الملك وحاشيته:  

هبط الشيطان في وادي القرود

أو هم الزنج، كما قد خلقوا

أمة من صنعة الخلاق سود

أخطأوا الصبغة، أو قد حرقوا

لقد كان من حظ الشيطان السيئ أن تصطدم كبرياؤه- أول ما نزل إلى الأرض- بأقوام سود لا ظل لهم على الأرض، بل هم الظل لسواد بشرتهم، حتى إن سيدهم يشبه الذئب في خلقته وهو قليل اللباس حافي القدمين مثله.. أي مصيبة أوقعته في هذا المكان، إنه يأنف من الإيحاء لهؤلاء بالشر، إنه يراهم أحقر من وسوسته التي إن كانت تفلح مع الحيوانات فستفلح مع أشباههم هؤلاء من بني البشر:

سخر الشيطان من قسمته

ومن الأرض، وما فوق السماء

ومضى يهجس في محنته

ألهذا تستذل الكبرياء؟

انتقل الشيطان إلى أرض أخرى هي أرض الروم وقام باختراع شيء سماه (الحق) فاختلف الناس حوله وكان علة لانقسامهم وصراعهم، فأغناه ذلك عن السعاية بينهم بالوشاية والوسوسة، حتى أنف من كل تلك الأفعال؛ إن كبرياءه تقنعه دوما أنه أعلى وأكبر من كل هذا:

ورمى أول فخ فأصابا

ودعاه الحق، واستلقى فنام

وأناب الحق عنه فاستجابا

فإذا الحق لجاج واختصام

وهكذا يأنف الشيطان من أفعاله الشريرة ويرى أنها لا تليق بعليائه المتوهمة، ويدخله الله الجنة؛ غير أن طبيعته الشيطانية تتغلب عليه ويشاكس الملائكة في تسبيحهم ويشككهم في فوزهم بالنعيم، بل ولا يحسدهم عليه؛ ثم استاءت الملائكة وشعروا بالغضب لأول مرة حتى أخذتهم فترة من نعاس.. إن كبرياء هذا الشيطان الرجيم لا تحدها حدود ولا تمنعها سدود، إنه يحسد الله العلي العظيم على ملكوته، بل ويعلن ذلك في فجاجة وقحة، حتى يسخطه رب العزة حجرا، ولكنه لا ينفك يفتن الناظرين باسم الفن.