..فى العام 2017 اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعى عددًا من الفيديوهات الإباحية لبعض نجوم السينما الأمريكية وحققت أعلى نسبة مشاهدة، وسريعًا اتجهت الشركات الضخمة التى تنتج المواد الإباحية على شبكة المعلومات إلى هؤلاء النجوم من أجل التعاقد حصريًا على نشر هذه الفيديوهات على مواقع الشركات بسبب ماتحققه من نسبة مشاهدة عالية وأرباح كبيرة، لكن المفاجأة أن هؤلاء النجوم لا يعلمون شيئًا عن هذه الفيديوهات وأنها لاتمت لهم بصلة.
تدخلت الأجهزة الأمنية الأمريكية المختصة للبحث حول حقيقة هذه الفيديوهات الغامضة بعد تلقى العديد من الشكاوى، وبدأت تظهر التحقيقات أن مصدر هذه الفيديوهات موقع متخصص مغلق على مطورى التكنولوجيا الرقمية يتبادلون فيه أحدث ماتوصولوا إليه فى هذا العالم الذى لا يتوقف عن التطور.
كان من بين المشتركين على هذا الموقع حساب باسم « Deepfake» أو التزييف العميق وسبب عرض المشترك وحسابه على الموقع هذه الفيديوهات إظهار مدى قدرة الذكاء الاصطناعى على صنع حقيقة مزيفة لا تمت للواقع بصلة، لم يستطع أحد التوصل إلى هذا المشترك الغامض الذى نشر هذه الفيديوهات، ولكن فى نفس التوقيت ظهرت أخطر وسيلة للتلاعب بالحقيقة والأخبار والمعلومات والتى أصبحت تسمى التزييف العميق نسبة إلى عنوان حساب المشترك الغامض.
تنبهت الشركات الكبرى المالكة لوسائط التواصل الاجتماعى لهذه الوسيلة الكارثية الجديدة وبدأت فى تعيين خبراء للكشف عن حقيقة مايتم عرضه على مواقعها وفى المراحل الأولى كان هؤلاء الخبراء قادرين على الاكتشاف والتفريق بين ما هو حقيقى ومزيف من فيديوهات ينشرها بعض مطورى التكنولوجيا.
لم يمر عام حتى استفاقت الولايات المتحدة على صدمة فيديو تم نشره للرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما وخلفه العلم الأمريكى وهو يوجه ألفاظًا نابية للرئيس الأمريكى وقتها دونالد ترامب وحقق الفيديو فى دقائق ملايين المشاهدات، ولكن أعلن الممثل والمخرج الأمريكى جوردان بيل أنه هو من صنع هذا الفيديو بواسطة برمجيات الذكاء الاصطناعى عن طريق استخدام عشرات من المواد المسجلة للرئيس أوباما، واضطر جوردان بعدها أن ينشرفيديو آخر مصنعًا لأوباما يحذر فيه من تقنية التزييف العميق بعد الاضطراب الذى سببه فيديو الألفاظ النابية.
تحركت مراكز بحثية أمريكية سريعًا لمعرفة مدى تأثير هذه الدعاية المزيفة على المتلقين بعد أن اكتشفوا حقيقة التزييف وكانت المفاجأة أن نسبة كبيرة ممن شاهدوا فيديو الألفاظ النابية لأوباما مقتنعين تماما أنه فيديو حقيقى وأن الفيديو الثانى الذى يحذر من تقنية التزييف العميق نشر فقط للمدارة على فيديو الألفاظ النابية.
هل توقفت صدمات التزييف العميق عند فيديو أوباما ؟ فى منتصف العام الماضى كان موقعا تيك توك ويوتيوب ينشران فيديوهات للممثل الأمريكى توم كروز وهو يتكلم ويقوم بألعاب سحرية ويلعب الجولف ويسير فى أحد المولات وحصدت هذه الفيديوهات هى الأخرى الملايين من المشاهدات فى دقائق وساعات قليلة وتم اكتشاف أن هذه الفيديوهات هى الأخرى أستخدم فى صناعتها تقنية التزييف العميق وصممتها إحدى شركات المؤثرات البصرية، لكن خطورة هذه الفيدوهات أنها مختلقة تمامًا فلم يتم الاستعانة بمواد مسجلة وسابقة لتوم كروز بل تم تصنيع توم كروز جديد من لا شيء ..فقط شخص يقوم بالأداء ويتولى الذكاء الاصطناعى تحويله إلى توم كروز حقيقى يفعل كل مايريد صنعه.
فى أقل من عام حدث تطوران على تقنية التزييف العميق فهى لم تعد تحتاج إلى مواد مسجلة للشخصية التى يراد تزييف واقعها، والأخطر أن البرامج التى يمكن من خلالها تصنيع هذه الفيديوهات أصبحت متوفرة على شبكة المعلومات ويمكن لأى شخص يمتلك خبرات تكنولوجية معقولة تصنيع مايريد من فيديوهات.
أثارت هذه الفيديوهات والتقنية التى تقف خلفها الذعر فى أوساط السياسيين الأمريكيين وفى أغلب الدول الغربية لأنه يمكن بسهولة تصنيع فيديوهات تشوه صورتهم أمام مؤيديهم وبدأوا حملات ضغط من أجل إصدار تشريعات قانونية تحجم هذه الدعاية الزائفة والخطيرة .
بدأت جهة أخرى غير السياسيين تستشعر خطورة هذه التقنية التى تعتبر رغم كل مافعلته من زيف فى مراحلها الأولى فتحرك البنتاجون أو وزارة الدفاع الأمريكية لمواجهة هذه التقنية بإنشاء عدد من المواقع تتيح لمستخدمى الشبكة المعلوماتية كشف حقيقة المواد الدعائية المزيفة.
لم تعد تنظر المؤسسة العسكرية الأمريكية إلى هذه التقنية بأن الغرض منها مجرد الإعلان والدعابة بل هى بداية حرب من نوع آخر وتطور خطير فى الحروب المعلوماتية فما تم تصنيعه من زيف كان بيد بعض الشركات والهواة ووصل لهذه الدرجة من الإتقان فما بال أن يتولى تصنيع الزيف دول وأجهزة مخابراتها أو تنظيمات إرهابية تمتلك قدرات تكنولوجية متقدمة وتبدأ حملات دعاية مزيفة.
منذ فيديو توم كروز المزيف كانت هناك تكليفات إلى المراكز البحثية المتخصصة فى الجامعات الأمريكية لدراسة تأثيرات هذه الظاهرة الكارثية وغير الجامعات الأمريكية نشطت فى نفس الاتجاه العديد من المنظمات المتخصصة فى تطورالتكنولوجيا ومراكز الأبحاث المتعلقة بعلوم الهندسة الاجتماعية وتفاعل الجماهير مع وسائل التواصل الاجتماعى الساحة الرئيسية لنشر هذه الدعاية المزيفة.
عندما تقرأ العديد من هذه الدراسات التى تتوالى فى الظهور بإطراد نكتشف أننا أمام تغيرات مفزعة قادمة خاصة بهذه الدعاية المزيفة فالقدرة على اكتشاف الحقيقى من المزيف أصبحت ضعيفة إلى درجة كبيرة، وسيأتى الوقت وهو ليس ببعيد أن نفقد القدرة على التفريق بين الاثنين والأخطر أن باستخدام أساليب الدعاية السوداء والحرب النفسية وتأثيراتها على مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى والجمهور بصفة عامة يمكن أن تصبح الحقيقة هى الزائفة والزائف هو الحقيقى.
يمكن استخدام التزييف العميق فى صنع حملات ممنهجة تولد تأثيرات عميقة فى كافة المجالات من السياسية إلى الاجتماعية إلى الدينية والأخطر هو مايطلق عليه التأثير الذى لايزول من عقل المتلقى لأن الكثيرين من المتلقين الذين تعاملوا مع هذه الدعاية المزيفة وبعد كشف زيفها لم يصدقوا أنها تخدعهم فهم تعاملوا معها كحقيقة لا تقبل الشك.
إن تطبيقات الذكاء الاصطناعى تشهد تطورًا متسارعًا بشكل لا يمكن تصوره وهى العامل الرئيسى فى صناعة التزييف العميق ومن هذه التطبيقات ماهو معلن ونتابعه، ولكن هناك تطبيقات لن نعرف مدى تطورها لأنها سرية وخاصة بالعديد من الدول وأجهزة مخابراتها التى تريد استخدامها فى حروبها المعلوماتية على وسائط التواصل الاجتماعى وشبكة المعلومات ضد خصومها لخلق حالات من التأثير الزائف الذى يخدم أغراضها وبالتأكيد أول من سيدفع الثمن هو المتلقى والحقيقة التى يبحث عنها.
بعيدًا عن الاستخدام الضخم لتقنية التزييف العميق على مستوى مجتمعات بكاملها فإن شيوع هذه التقنية بين الأفراد العاديين أو بين جماعات تتبنى أفكارًا معينة يمكن أن يفجر العديد من الجرائم التى يكون سببها معلومات مضللة و فيديوهات مزيفة متقنة الصنع تشوه الآخر مما تدفعه للانتقام، هذا غير جرائم الاحتيال والتزوير التى قد يعتمد مرتكبوها بالكامل على هذه التقنية الزائفة.
أمام هذه التوقعات التى تشير لها أغلب الدراسات فى تأثير التزييف العميق على الحقيقة وقيمة المعلومة ففى نفس الوقت هناك العديد من الآراء تؤكد أن الصحافة بكافة وسائلها المكتوبة والمرئية والإلكترونية هى الأفضل فى مواجهة موجة الدعاية الزائفة لأنها تمتلك من الوسائل التى تجعلها تتحقق من صدق ما ينشر وتصبح هى الحصن أمام المتلقى للحصول على معلومة أو صورة صادقة دون تزييف.
وسط الأبحاث والدراسات ضرب التزييف العميق ضربة أخرى فبدون مواد مسجلة كحالة فيديو أوباما أو شخص يتم استخدامه فى فيديو توم كروز ظهرت شخصيات على شبكة المعلومات مصنعة بالكامل ووهمية تماما ولا يوجد لها أى أصل فى الواقع يتم استخدامها من قبل صانعيها لتضليل الرأى العام و المتلقين .. أمام هذه الهجمة الأخيرة من التزييف العميق يبقى سؤال هل أصبحت الحقيقة فى خطر؟